الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

من ينقذ العصافير من العاصفة..?

* اللوحة بريشة: سعاد الصباح

بقلم:| د. سعاد الصباح |


الأطفال كالأشجار...
نعتني بهم، فتخضرُّ أوراقهم، وتكتظ أغصانهم بأطيب الثمار، ويملأون بيادر الوطن بالحنطة، والخير، والفرح...
ونتخلى عنهم، فتتساقط أوراقهم، وتيبس أغصانهم وثمارهم... وتتحول مواهبهم إلى ألواح خشبية... وتتحوّل عيونهم إلى عيون من حجر.
إن الطفل العربي هو الاستثمار الرابح الوحيد، في حين أن بقية استثماراتنا قابلة للربح والخسارة.
الطفل العربي هو آخر حصان جميل نراهن عليه... فإذا خسر هذا الحصان، فإن سلالة الخيول العربية كلها سوف تنقرض.
قد يكون كلامي جارحاً بعض الشيء، ولكنني أكتب ما أكتبه، لأنني ألاحظ أن الأطفال العرب يعيشون في مناخ ملوث، صحياً، وثقافياً، واجتماعياً، وقومياً... وأنهم ضائعون، ومكسورون جسدياً ونفسياً... ومهتزون كشجيرات من القصب تعصف بها الريح.
إنني أشعر بأنهم يتامى مع أن آباءهم موجودون... وأشعر بأنهم متخلفون عقلياً... مع أنهم يذهبون إلى المدرسة... وأشعر بأنهم مكتئبون رغم الألعاب التي يحصلون عليها... وأشعر بأنهم لا يجدون الدليل، والموجّ.ه، والمرشد الذي يدلّهم على الطريق، وبأنهم يتخبطون في المجهول، كما يتخبط مركب ليس له قائد... ولا بوصلة.
وفي العصر الذي تتضخم فيه عبادة الذات، وعقد الأنانية، والفردية... لم يعد لدى الإنسان وقت يمارس فيه أبوته... أو أمومته... أو يمارس فيه غريزة الحنان.
إنه عصر تصلب الشرايين، وتصلب العواطف، وتصلب المشاعر الإنسانية من الدرجة الأولى.
حتى القبلات التي كنا نطبعها على خدود أطفالنا قبل ذهابهم إلى المدرسة نسيناها... حتى وجبات الطعام التي كنا نتناولها معهم في البيت... ألغيناها... إننا الآن نعطيهم المصروف المدرسي... ونقول لهم «دبّروا حالكم».
فهل دخلنا مع أولادنا مرحلة «فك الارتباط»... فأصبحوا يزوروننا كباقي الزوار... وينامون في المنزل كما ينامون في الفندق؟
هل توقف الكلام بيننا وبين أولادنا وانكسر الحوار؟ هل أصبحت غرف البيت مجموعة من الكانتونات، كل كانتون له شخصيته، وسيادته، وأفكاره... وميزانيته الخاصة؟
شيء مرعب، هذا الذي يحدث في العائلة العربية. فمن هو المسؤول عن هذا التشرذم، والتفكك، ودخول القلب العربي إلى الثلاجة؟
من المسؤول عن هذا العصر الجليدي الذي دخلنا فيه، فلا كلمة حب... ولا همسة شوق... ولا لمسة حنان؟
هل صارت الأمومة والأبوة ألقاباً رسمية... كألقاب الباشا، والبيك والأفندي، والآغا... موجودة في سجلات الأحوال المدنية فقط؟
هل هي أوروبا التي نقلت إلينا جبالها الجليدية، وثلوجها الشمالية، وبلادتها العاطفية؟ أم أن العالم كله صار بلا قلب... وصارت العواطف الإنسانية تباع في السوبر ماركت مع زجاجات الحليب، والأطعمة المثلجة؟
هل انتقلت إلينا هذه المجاعة العـــاطفية الرهيبة... فأصبحنا نبحث عن رغيف الحب فلا نجده... وعن طعم الحنان فلا نعثر عليه؟
أتصور أن المسؤولية في هذا ذات شقين: الشق الخارجي المتعلق بطبيعة العصر الحديث. هذا العصر الذي جعلته الثورة الصناعية كائناً ميكانيكياً صرفاً. فجرّدت عواطفه، وألغت قيمه الروحية، وجعلت الإنسان الغربي جزءاً من الآلة التي يعمل عليها.
والشق الثاني إقليمي، ويتعلّق بطبيعة العصر العربي.
فهذا العصر، كما نلاحظ جميعاً، هو عصر الانفراط، والتمزق، والشتات العربي، سواء على الصعيد السياسي، أو على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، حيث سقطت قيم أخلاقية واجتماعية وأدبية كانت جزءاً لا يتجزأ من التراث العربي والشخصية العربية.
وقد كان من الطبيعي أن ينعكس هذا التفكك القومي على الوضع الاجتماعي والعائلي، بحيث لم يعد أمام الأطفال أي جدار نفسي يستندون إليه... وأي منارة قومية أو ثقافية أو تعليمية يسترشدون بها في هذا الظلام الدامس.
إن الفكر الفئوي والطائفي والمذهبي أصبح سيّد الموقف... ولم يعد بإمكان الآباء والمعلّمين والمربّين أن يقدموا لأولادهم، وتلاميذهم أفكاراً تتناقض تناقضاً جذرياً مع ما يرونه على أرض الواقع.
حتى اللغة العربية دخلت في المأزق... فالعائلات العربية الكثيرة التي اضطرت تحت الضغوط الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية أن تغادر أرض الوطن... حملت معها مأزق اللغة... لأن وجود أطفالها لسنين طويلة خارج حدود اللغة العربية، سيجعلهم أشبه بالمستشرقين الذين يتكلمون اللغة العربية باللهجة الأرمنية.
بالإضافة إلى أن الأطفال العرب الذين يولدون في المنفى، أو يترعرعون في المنفى، سيكونون مستلبين، وغرباء عن قضاياهم القومية... بل سيكونون بلا انتماء حقيقي إلى أي مكان.
وربما كان مأزق الانتماء هو أخطر المآزق التي يواجهها الأطفال والشباب العرب... الذين وجدوا أنفسهم في بيئات غير بيئاتهم... وأمام لغاتٍ غير لغاتهم... وعادات غير عاداتهم.
هذا هو المأزق الكبير في نظري، بل هذه هي التراجيديا القومية واللغوية التي تواجهها الأجيال العربية القادمة...
فما الطريقة التي تنقذ بها هذه الأجيال من الضياع؟
وما المخطط الذي يكفل حماية هذه العصافير العربية الصغيرة من الوقوع في أسنان العاصفة؟
إنني أقرع جرس الخطر، لأنني أعتبر أن الأطفال العرب هم العمود الفقري للمستقبل العربي كله. فإذا تخلينا عنهم، وتجاهلنا مشاكلهم الجسدية والعقلية، والثقافية، والقومية، سقطوا هم، وأسقطوا الهيكل معهم.
صحيح أن مشاكل العالم العربي كثيرة ومتشابكة، وصحيح أن المشاكل السياسية تطغى على كل المشاكل الأخرى، ولكن المشاكل السياسية تبقى مشاكل عابرة وموسمية ومزاجية، أما مشاكل الطفولة فتأتي على رأس الأولويات، لأنها الحجر الأساسي في عمارة الوطن.
إن الطفل العربي هو الذي سيرسم صورة الرجل العربي القادم، وهو الذي سيحدد ملامح المستقبل. فإذا فشلنا في ضخّ دم الوطنية، والانتماء، والعلم، وحب المعرفة، وروح الاكتشاف والإبداع، والارتباط بالقيم الروحية، وبالأرض وبالتراث، في هذا الجيل، فإن الأجيال القادمة ستكون أجيالاً غير منتمية لأي زمان... وأي مكان... وغريبة عن الوطن والتاريخ... وضائعة في مهب الريح كالطائرات المصنوعة من الورق.
الطفولة هي رأسمالنا الباقي، فإما أن نربح الجائزة الكبرى، وننقذ آخر ما تبقى من أشجار الوطن الخضراء... وإما أن نفشل، فتحترق الغابة بكل ما فيها من شجر وعصافير... ونحترق معها.




* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن»..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق