صباح الخير . . أيتها الحريّة
بعـد مئتين وعشرة أيام ، وثماني ساعات ، وعشرين دقيقة، وخمس ثوان ، عددتها
على أصابع يدي ، كما يعـد المساجيـن فتافيت الخبز
وأعقاب السجائر ، وخيطان بطانياتهم . . .
دَخَلَتْ علىّ رائحةُ الكويت من نافذة منفاي في لندن ، فاخضرَّ لون دمي. . وتسلّق العُشب على جدران ذاكرتي . .
ما أطول زمنَ المحبوسين في زجاجة الأنظمة الفردية . .
زمنٌ من الخَشبَ . .
لا يتقدمّ . . ولا يتأخّر . . ولا يشيخ . .
بعد مئتين وعشرة أيام . .
أكلتُ فيها نصفَ أظافري . . ونصفَ دفاتري . .
استيقظت صباحاً لأجد مئات الهدايا مكوّمةً فوق سريري
القمر الكويتي في كيس . .
أبراج الكويت في كيس . .
دشْدَاَشَتي الصيفية في كيس . .
ألعاب أولادي ، ودفاترهم المدرسية في كيس . .
صورة " مبارك الكبير " في كيس . .
والبحر ، والكورنيش ، والسالمية ، والجابرية ، ومشرف ،
ودسمان والشويخ ، والفحيحيل ، والأحمدي .
. ووربة . . وبوبيان . . وفيلكا . .
كلها كانت ملفوفة بأوراق السيلوفان والقصب تنتظر إلى
جانب سريري ..
رائحة الكويت تهاجِمُني من كلِّ الجهات . . .
رائحةُ الشاي والقهوة في الديوانيات تخترقني من كل مكان
. .
تبللني . . تثقبني . . تحفرني . .
كنت أتصور قبل احتلال بلادي ، أن رائحة الحرية رائحة
عاطفية وشعرية وكمالية . . وأن الطغاة
يمكنهم أن يمنعوا استيرادها بمرسوم صادر عن مجلس قيادة الثورة ، أسوة بكل مستحضرات
الحرية الأخــرى من أقلام وأوراق ودفاتر . .
ولكنني اكتشفت أن رائحة الحرية هي أقوى الروائح ،
وأعنفها ، وأكثرها التصاقاً بأجسادنا وأرواحنا . .
بعد مئتين وعشرة أيام على اختطافها . .
عادت إلينا الكويت وجهاً مغسولاً بالدمع والحزن
والكبرياء . .
عادت منهكةً ، محطمة ، ممزقة الثياب ، دامية الشفتين . . لن ندخل في تفاصيل
خطفها . . ولن نسجل إفادتها ، ولن نجري معها حواراً صحفياً . . لأنها تعاني من
صدمة عصبية قوية ، ولأن حالتها النفسية لا تسمح لها بالكلام مع أحد . .
ثم لن نسألها عن أسم المعتدي ، وعنوانه ، وأوصافه . .
فهو معروف جداً . . ومشهور جداً . . ويظهر كل ليلة على قناة الـ C.N.N.
بعد مئتين وعشرة أيام . .
عادت إلينا الكويت ، حافيةً ، جائعةً ، مصابةً بفقر الدم
، بعد أن جّردها الخاطفون من حقيبة يدها ، وخاتم زواجها ، وآخر خمسة دنانير كانت
في جيبها . .
بعد مئتين وعشرة أيام . .
هربت الكويت من زوجها الفظّ . . المتسلّط . . والعدواني
. . الذي تزوّجها رغم أنفها بقوة السلاح . . وصواريخ سكود . . والكيميائي المزدوج
. .
ورغم أنها شكته إلى شرطة الانتربول أكثر من مرة . . إلا
أنه لم يتوقف عن ضربها . . وتجويعها . . وطردها مع أولادها من البيت الزوجي . .
العالم كله – بما في ذلك هيئة الأمم المتحدة ، ومجلس الأمن ، ومحكمة العدل
الدولية – كان إلى جانب الزوجة الرقيقة ، الوديعة ، المسالمة ضد الزوج الذي لا
يعرف من الهوايات سوى هواية جمع المسدسات . .
بعد مئتين وعشرة أيام . .
على عقد " الزواج المسلَّح " ، رَفَضَتْ الكويتُ أَنْ تتخلى عن
أصولِها وجذورها ، وشجرة عائلتها ، كما رفضَتْ أن تَدْخُلَ إلى بيت الطاعة في
المحافظة التاسعة عشرة . . .
ولأن العريس أصيب بطعنةٍ في كبريائه . . فقد عَمَد إلى تفجير البيت الزوجي
بالديناميت ، حتى يغيظ أهل زوجته ، ويثبت فحولته . . وأنه قادر على قصف رقبة أي
امرأة تخالفه . .
جميع أسماك الخليج
. . قدمت استقالتها من حزب البعث العراقي . . وانتسبت إلى " حزب الخضر "
. .
لأنها لا تريد أن تموت اختناقاً . .
إذا كان النفط ثروة قومية يجب توزيعها على فقراء العرب بالعدل والتساوي . .
. كما يقول الرئيس العراقي ، فلماذا أمر بإشعال النار في أكثر من 500 بئر نفط قبل
انسحابه . .
هل هي السادّية . . ؟
أم الشيزوفرنيا . . ؟
أم غريزة نيرونية . . لحرق السلالات . . وقتل الحياة والأحياء ؟
بقدر ما كنت مبتهجةً بعودة الكويت إلى أصحابها . . كنت
حزينة ومتضايقة لرؤية مئات الأسرى العراقيين على شاشة التليفزيون يتساقطون إعياءً، وجوعاً، وعطشاً، ويتقاتلون
على كسرة خبز، وجرعة ماء . . .
إن مشاعري القومية تنزف دماً، أمام المشاهد الموجعة
للقلب والضمير. .
لماذا كسر الرئيس العراقي كبرياء الجندي العراقي ؟ . . وكسر كبرياءنا أيضاً
؟
الجندي العراقي لديه أعظم نهرين في الدنيا : دجلة والفرات ، فلماذا اضطره
قائده إلى استجداء زجاجة كوكاكولا من خيام الغرباء ؟ . .
واعجبي ! ! ! .
ولا يزال الرئيس العراقي يستعمل قاموسه الجاهلي في الحرب ، ولا يزال يستعير
مفرداته من شعر عمرو بن كلثوم ، وأبي تمام ، عن المنازلة الكبرى ، وقتال الكافريـن
والمشركين ، وعن الأعداء الذين " نَضجَتْ جلُودُهم قبل نُضْج التين والعِنَبِ
" .
في حين لا نرى على شاشة التليفزيون تيناً . . ولا عنباً . . ولا خالداً . .
ولا معتصماً . .
وإنما نرى أولادنا العراقيين يرفعون قمصانهم البيضاء ،
ويذهبون إلى المعسكر الآخر وهم في ذروة الحماسة إلى الخبز والماء والحرية . .
مرة أخرى أتساءل ، والدمعة في عيني :
لماذا أوصل الرئيس العراقي جنوده إلى هذا الخيار الرهيب . .
وإلى النقطة التي يصبح فيها السقوط في الأسر ، مطلباً نفسياً وجسدياً لا
يُقاوم؟ ؟
لماذا . . . ؟ لماذا . . ؟ لماذا ؟ . .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق