الأحد، 16 مارس 2014

الذئب الأخير

بقلم: د. سعاد الصباح


 منذ القلم، ومنذ الكتابة، ومنذ الدمعة الأولى، وشهقة السيف الأولى.. كان الشاعر العربي ملاذاً للحب، وملجأ للفقراء، وصوتاً للنبل والرأي الحر، وشمساً يُحتج بضوئها، وقمراً يحلو العشق على ضفاف نوره.
الشعر ذلك الشجن العابر للوحشة، المتجاوز للمفازات بكل حنين العرب، وحزن العرب، وأصالة العرب.. وكرمهم.
كان الشاعر العربي كريماً في وصف شعوره بالشعر، يبالغ وهو يهجو، ويبالغ وهو يجنّ بالحب، ويبالغ في المديح.. وقد يستسلم للخمر حتى يحين الأمر، فيعطي الأمر فوق حقه.
حتى انقضى ذلك الزمن، واجتاحت عربات الشعر الحديث البراري والمفاوز والمرابع والخيام، ونصبت فيها رايات المدنية، ووضعت فوق الجبال صحون الالتقاط، وعُبّدت الأودية بالإسفلت.. حتى غيّرت الحبيبة مكان موعدها من البئر إلى الـ "كوفي شوب"، وتغيرت موسيقى الخلفية الموسيقية من ثغاء الغنم وحنين الإبل إلى مقطوعة لتشايكوفسكي.. عندها قرر الشعر أن يخلع ثياب البداوة، وينتظم في المدارس الحديثة، يقرأ كتب العلم بورق صقيل، ويطالع قصة قيس وليلى عبر الـ "فيديو كليب".
وفي الوقت الذي كان شعراء الجيل الحديث يهيِّئون القصيدة لأن تغتسل مما علق بها من رمال الصحراء، وتخلع عن جسدها الخرق المرقِّعة وبقايا داحس والغبراء، لتدخل الحياة المدنية متأنقة بربطة عنق تفوح منها رائحة عطر فرنسي، ولتجلس في المنابر تضع ساقاً فوق ساق بشعر "مهندم" وصوت هادئ.. جاء الشاعر الراحل سليمان الفليح -رحمه الله- يجرها من شَعرها ليعديها إلى الصحراء،  يخلع عنها ثياب المدينة ويصعد بها إلى الجبال، يطلب منها أن تصرخ بصوته صراخ الصعاليك وتركض ركضهم، وتطالع حضارة المعدن من بعيد تهزأ من بهرجتها وإضاءاتها، وهي تنفرد بالليل والقمر وصوت الذئاب.
كأن سليمان الفليح سهم انطلق من زمن عروة بن الورد والسموءل والشنفرى، واستقر في قلب المدينة في القرن العشرين وما بعده بقليل، يخبرنا بأن البداوة لن تغيب عن الشعر، وبأن القصيدة العربية -وإن تغيّر شكلها- لم يتغير مضمونها.
وعلى المستوى الشخصي كان الفليح إنساناً ودوداً، وبرغم احتجاجه إلا أنه يقبل الآخر، ويتقبل رأيه ويتحاور معه بكل ودّ.
ظل يتواصل معي بين آن وآخر بالكتابة أو بالاتصال، يجدد أو يؤكد المودة والهمّ الشعري المشترك.
وقد كان لدار سعاد الصباح تعاون مع الشاعر من خلال مجموعته الشعرية المميزة (ذئاب الليالي)، وهاهي تُقدم على جمع نتاجه الشعري في مجموعة كاملة وفاء للشعر، ولصوته الذي كان دوماً صوتاً للكويت وأصالتها.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق