الاثنين، 30 أبريل 2012

عبدالله المبارك في شعر وفكر سعاد الصباح



بقلم: علي المسعودي





كنت أعدّ لأبحث عن "عبدالله المبارك" في شعر سعاد الصباح، فوجدت حضوره في نفسها وحياتها أوسع بكثير من مساحة الشعر، فهو مرسوم على كل تفاصيلها وكل تاريخها..
 إذا كلـّمتها عن السياسة قالت: عبدالله المبارك..
 إذا حدّثتها عن الحب.. قالت: عبدالله المبارك..
 إذا فتحت لها  أبواب العروبة.. همست: عبدالله المبارك، وإن ذكرت لها التضحية سمعتها تقول: عبدالله المبارك، ولو أشرت إلى الحكمة والحكم وجهتك إلى "عبدالله المبارك"...

تسألها: ماذا عن شعرك؟ تقول: أخذت افكاري من بومبارك
تبادرها: وماذا عن شعورك؟ تجيب: ازدهر ربيعه بمطر عبدالله المبارك.
ماذا عن دراستك؟ تؤكد: الفضل فيها يعود إلى بومبارك
صداقاتك؟
رحلاتك؟
اولادك؟
انت؟
هم؟
كل ذلك عبدالله المبارك.
فكأن سعاد كانت كالقمر الذي يدور حول الأرض.
هي القمر بجلائه وتجلياته وجماله، وهو الأرض بكل عطاءاتها وحنانها..
بينهما حالة تجاذب وانجذاب أبدية، لا يستطيع القمر الخروج من مدار الأرض، ولن تكون الأرض أرضاً جميلة بلا قمر...

لذلك لم يكن عبدالله المبارك منحصرا محدودا في الشعر، بل في الفكر كله كمنهج حياة وكإيمان، وكامتنان...

ومن المثير للعجب أن ذاك الرجل قرر اعتزال الحياة السياسية وترك الإعلام، في الوقت الذي تغلغل في فكر الشاعرة الأديبة فحضر إلى الحياة الاجتماعية والفكرية والشعرية والسياسية من خلالها كل هذا الحضور..
وبعد حياة حافلة بالتنقلات والتحولات.. جاء دور الوفاء بعد الرحيل..
الوفاء.. الحميم، خصلة المرأة العربية الأصيلة.
وقد اشتهرت نساء شاعرات بالرثاء.. حتى قال مصطفي صادق الرافعي في كتابه "تاريخ الأدب"  (ان الرثاء هو عمود شعر النساء) ، فكان خلود رثاء الأخوة في قصائد الخنساء ومراثيها في شقيقها صخر:
أعيني جودا ولاتجمدا
الا تبكيان لصخر الندى
الا تبكيان الجميل الجريء
الا تبكيان الفتى السيدا
            
وفي رثاء الزوج اشتهرت أبيات جليلة بنت مرة في زوجها القتيل كليب:

يا قتيلا قوض الدهر به ... سقف بيتي جميعا من عل
....
خصني قتل كليب بلظى من..  ورائي ولظى من أسفلي
ليس من يبكي ليومين كمن  .. إنما يبكي ليوم ينجلي

*******

لكن نتاج سعاد الصباح الشعري والإنساني والفكري أخذ شكل الوفاء أكثر من شكل الرثاء، فكانت دوما تخاطبه كواقع وكوجود وكحضور.. شاخص أمامها بهيئته وبتاريخه، رغم أنه خطاب عاطفي واع ومدرك لحجم الغياب في الوقت ذاته.. وليس من قبيل الاحتجاج على الفقد.. فلم يتضح من كل ماكتبت أنها ترفض هذا الغياب او تحتج على المقادير، بل إنها تقبل ماحدث بنفس راضية.. وفي الوقت ذاته تعيد تشكيل الحضور بشكل آخر، فانجازاتها هي امتداد لحضوره، وأولادها هم استمرار لهيبته وذكرياتها هي اعادة تشكيل واقع فات لواقع سيأتي..

هكذا تعيد سعاد الصباح أحداث الوفاء التي اشتهرت بها المرأة العربية.. فتقفز إلى الذاكرة بعض ما ذكره ابن الجوزي في كتابه أخبار النساء، ومن ذلك قول الاصمعي: رأيت بالبادية أعرابية لاتتكلم، فقلت: أخرساء هي؟ فقيل لي: لا، ولكن زوجها معجبا بنغمتها فتوفي، فآلت ألا تتكلم بعده أبدا..



وقول الأصمعي: خرج سليمان بن عبدالملك ومعه سليمان بن المهلب ابن ابي صفره من دمشق متنزهين فمرا بالجبانة، فإذا امرأة جالسة على قبر تبكي فرفعت البرقع عن وجهها فكأنها غمامةٌ جلت شمسا، فوقفنا متعجبين ننظر اليها فقال لها ابن المهلب: يا أمة الله هل لك في امير المؤمنين بعلاً؟ فنظرت إليهما ثم نظرت إلى القبر، وقالت:
فإن تسألاني عن هواي فإنه    بملحود هذا القبر يافتيان
وإني لأستحييه والترب بيننا    كما كنت استحييه وهو يراني


قال الاصمعي: فانصرفنا ونحن متعجبين!
والعجب الأكثر هو في صنيع قلب سعاد الصباح.. وانهماراته الصيفية والشتائية ببوح حار للزوج والحبيب والصديق الفقيد..
لأن التلاقي بين (سعاد وعبدالله) كان تلاقي عواطف وتلاقح افكار انبت هذه العلاقة النادرة التي تثير الاعجاب والفخر...
وكم هو رائع ان تغير سعاد الصباح الصورة النمطية في الشعر التي تقوم جماليات شعر الغزل فيها على التغزل بحبيب ليس هو الزوج.. لتثبت أن الحب للزوج والتغزل به وإكباره في النفس والقلب يعطي بعدا أكثر جمالا وجلالا ونبلا للكلمات وهي تسميه (القديس الذي علمني أبجدية الحب من الألف إلى الياء).. تنشد:

رسمني كقوس قزح
بين الأرض والسماء
وعلمني لغة الشجر
ولغة المطر
ولغة البحر الزرقاء
...              

في عام 1960 ارتبطت الشيخة الصغيرة بابن عمّها الشيخ الكبير.
مثل كل مفاجآت الحب.. قرأ اسمها من بين أسماء الطالبات الفائقات.. فاختارها قلبه على الفور، وقبلت هي فورا بهذا الفارس الذي جاء يخطفها من حضن الأب.. إلى أحضانه كزوج وحبيب ومعلم وأب وصديق.
وقد تعددت أشكال الخطاب الشعري والنثري لسعاد الصباح تجاه عبدالله المبارك
فهو مرة "المعلم" الذي يأخذ قداسة المعلمين الحكماء
وهو مرة "الصديق" الذي يسمع ويستوعب ويناقش
وهو أحيانا الأب الذي يداعب طفلته ويعرف جنون أعاصيرها
وهو
وهو
وهو
ماأكثره وما أوسعه وما أرحبه في قلبها، وفي ذاكرتها، وفي مساحة الجغرافيا والتاريخ عندها

قالت له شعرا:

مر تجدني.. أجعل الليل
إذا ما شئت فجرا

والخريف الجهم نيسانا
وألوانا وبشرى
ياحبيبي لا تسل مالون حبي.. أنت أدرى!


وفي سؤال صحفي طرح عليها عمن تقدموا لها يطلبوا يدها للزواج بعد وفاة عبدالله المبارك، أجابت هذه الإجابة الحاسمة والمذهلة:
( لا أحد يجرؤ على ذلك)


تقول نثرا:
حين تزوجت ابن عمي وحبيبي..... ومعلمي الشيخ عبدالله المبارك الصباح كنت في الأول ثانوي، وجدت رجلا مثاليا لايمكنني أن أصفه، وقف الى جانبي منذ اليوم الأول، وتنازل عن امتيازاته التاريخية ومعروف انه رأس العائلة وعمها جميعا. دفعني إلى ملاعب الشمس كي أغرف من الثقافة والعلم ولكي أزداد علما وفكرا،
هذا الرجل العظيم سار معي كل هذا الطريق الطويل، وكان فخوراً أنني أتعلم..
كان هو سندي والكتف الرحيم الذي ارتاح عليه عندما تعصف بي الرياح.
وتضيف: وإذا كنت حققت شيئا في حياتي العملية والأدبية..
فالفضل الاول يعود إلى عبدالله المبارك

وكانت وصيته لأولاده أن يستثمروا أنفسهم بالعلم والفكر وخدمة بلدهم.

تقول..

(كان يقول: إن النفط لوث بعض أفكارنا..
وكثير من قصائدي وكتاباتي هي من وحي أفكاره وتعليقاته)

سعاد الصباح هي حالة انبهار قصوى بالزوج، وقناعة تامة به كشريك حياة، ليس في الأمر ادّعاءا إعلاميا، ولا بهرجة أدبية.. فهذا الإصرار في القول، والاستمرار في التعبير والشعور الجارف بأشكاله وإشكالاته، يثبت ويؤكد ماتذهب إليه.. ويحشد كل أحاسيسها لكي تكون الكلمات معبأة بها.. صدقا لا حد لنقائه وصفائه.


أما قصيدتها (آخر السيوف) التي تكاد تكون رثائية جيل، فهي علامة فارقة في مسيرتها الشعرية من حيث إحساسها ودفقها والسبك والحبك واللفظ والصور المتتابعة المتزاحمة التي تحكي مرارة فـَـقد امرأة شامخة لجبلها الذي جبلت عليه.
..
في القصيدة تداخلت أحاسيس الوطن بأحاسيس الحبيب .. وشجون الأمّة بشؤون الزوجة، فبلغت غاية الإحساس وأقصى الوجع وذروة الألم وسنام الحزن .. ومادلالة آخر السيوف إلا ماتعنيه آخر جولات الفرسان في الحرب، فالسيف الأخير لا يكون بعده إلا إسدال الستارة على كل الجروح..
السيف الأخير سيلتصق باليد التي تحمله معجونا بالدم.. والإصرار ..

ها أنت ترجع مثل سيف متعب
لتنام في قلب الكويت أخيرا
يا أيها النسر المضرج بالأسى
كم كنت في الزمن الرديء صبورا
كسرتك أنباء الكويت ومن ر أى
جبلا بكل شموخه مقهورا
...
صعب على الأحرار أن يستسلموا
قدر الكبير بأن يظل كبيرا

كانت تلك القصيدة الأجمل والأوجع التي كتبتها عقب يوم الفقد الذي لا ينسى: يوم 15 يونيو 1991

...
ومثلما أعادت سيرة الشوق.. أعادت كتابة مسيرة الرجولة والبطولة عبر كتابها (صقر الخليج) الذي تناول رحلة رفيق الدرب ومسؤولياته الكبيرة وتضحياته العظيمة..

...
واستمرارا للوفاء أعدّت كتابها الأهم عن الشيخ مبارك الكبير مؤسس الكويت الحديثة... وكان إلى الإهداء كما نتوقع تماما:
(إلى أسرتي الصغيرة..
إلى روح زوجي الشيخ عبدالله المبارك
إلى أولادي محمد ومبارك وأمنية والشيماء..
إلى أحفادي وحفيداتي
وإلى أسرتي الكبيرة أهل الكويت..
صفحات تحكي عظمة قائد وشموخ شعب..)
وكان الكتاب القيّم الذي يحكي التاريخ وسيحكيه التاريخ.
أما الصفحات الأهم والأروع والأمتع فتلك التي حواها كتابها الأميز والأشفّ: (رسائل من الزمن الجميل) في نصوص صدرت للمرة الأولى عام 2006
تلك الرسائل الشعرية ذات النمط الروائي والمطر العاطفي.. بصياغة البوح الحميم.. بروح أديبة عاشقة، كأنها حمامة ترفرف فوق غمامة
الحمامة سعاد.. والغمامة عبدالله
...
تفتتح الكتاب بالانهمار الحار:

(يوم طلبني الشيخ عبدالله المبارك للزواج عام 1959 كان الطلب بمثابة زلزال قوي هز أعماقي، لم أصح منه إلا بعد وقت طويل..
كان بالنسبة لصبية صغيرة لاتزال تلبس المريول المدرسي بطلا من أبطال الروايات التي كنت أقرأها..
وفي مرحلة المراهقة ماأكثر الأبطال الذين حلمنا بهم، وتمنينا أن يخطفونا ذات يوم على حصان أبيض، ويغمرونا بحبهم وحنانهم وكرمهم وفروسيتهم.
وعندما طرق الباب.. عرفت أن روايات الطفولة صارت واقعا)

تكمل:
(لم يخبئني عبدالله المبارك خلف الستائر، ولم يحبسني في قارورة..
وإنما أدخلني إلى مجلسه، وشجعني على المشاركة في كل الحوارات...
ومن أهم أفضال عبدالله المبارك علي أنه صنعني فكريا وثقافيا عندما فتح أمامي الضوء الأخضر لأواصل تعليمي....)

...

تخلص إلى القول: قليلون هم الرجال الذين يضعون نساءهم على أكتافهم.. ويصعدون بهن إلى قمة الجبل في هذا الوطن العربي. وأشهد أن عبدالله المبارك حملني على أهدابه وعلى أكتافه حتى أوصلني وأولادي إلى شاطيء السلامة.
...
علمها القومية منذ اللحظة التي رفع فيها شعار: الكويت بلاد العرب.. فمنح حق الإقامة لكل عربي على أرض الكويت.
وعلمها الحب منذ أن رعاها بحنان قلبه.
وعلمها الحرية منذ أن منحها حق المشاركة.. فهي أول امرأة تحصل على حقها السياسي غير منقوص.
وقد كتبت إهداء كتابها بهذا الشكل:
(عبدالله المبارك.. زوجي
ومعلمي.. وحبيبي..
وصديق الزمن الجميل)

وكانت أول رسائلها:

(يا أكثر من حبيبي..
إنه الوضوء بمياه ضوئك..)

وفي الرسالة رقم 39:
عبدالله يا أحلى الأسماء..
ترحل وتقفل الباب على زمن رائع عشته معك..
من الزمن الكويتي إلى الزمن اللبناني
إلى الزمن المصري.. إلى الزمن السويسري
إلى الزمن الانجليزي
أشعر أنني تعبت وأن الوقود في سفينتي بدأ ينفد...

(عندها تعلن أنها تقفل باب الزمن حيث خبأت أجمل أيام عمرها، وحيث دفنت أثمن كنوزها..)

****
وفي التجربة الأدبية لسعاد الصباح الممتدة التي أقلعت رحلتها الأولى في ديوانها الأول "من عمري" عام 1963 وكانت استراحتها الأخيرة "رسائل من الزمن الجميل" هناك درس أخلاقي في الشعر.. فقد اعتدنا من أهل القصائد شعراء وشاعرات أن يكتبوا عن أحبة لهم لا نعرفهم، بل نجهل أسماءهم وأشكالهم..  فهم ليسوا أزواجا ولا زوجات.. إذ أن تجربة الشعر رسّخت في أذهاننا أن الزوجة لا تصلح أن تكون حبيبة، ولا الزوج يستحق أن تدبج فيه قصائد الغزل.. وذلك ما يشبه الهروب الشعري بالإحساس إلى الآخر البعيد..
وتجارب قليلة صرحت بشخص الحبيب.. القريب.
أشهرها غادة السمان التي نشرت رسائل غسان كنفاني إليها.. وهناك فرق كبير بين رسائل سعاد إلى زوجها وحبيبها عبدالله المبارك،  ورسائل كنفاني إلى غادة ..
فلايخفي على لبيب تلك النرجسية وحب الذات التي دفعت غادة إلى النشر وما تنطوي عليه من خيانات أسرية.. وهو عكس حال سعاد الصباح في رسائل التفاني والاخلاص والعفة والوفاء.. وإنكار الذات.. فهل نصدق أن الحبيب عبدالله المبارك لم يكتب أي رسالة إلى الزوجة الشابة الجميلة الحبيبة.. لكن أم مبارك لا تتاجر بمشاعر الزوج الحبيب..
وهي لم تنشر رسائلها إليه الا بعد وفاته، وذلك منتهى الاخلاص والصدق في مشاعر لاتريد فيها ردة فعل من الطرف الآخر...


لقد بدت غاية الحب وأوجه وذروة سنامه وبكل وضوحه في كتابها (رسائل من الزمن الجميل) الذي يظهر الحبيب باسمه وكامل أوصافه وبصورته دون تلميح بل بصريح العبارة: هو عبدالله المبارك من الخطوة الأولى إلى المثوى الأخير.. منذ ذلك اليوم الذي طالع اسمها في كشف الفائقات في الصف الأول ثانوي فاختارها، إلى اليوم الذي طالعت وجهه للمرة الأخيرة وهو يذهب إلى جوار ربه..

وعندما  نعقد مقارنة بين رسائل سعاد ورسائل غادة... نجد أن رسائل الكتابين مكتوبة بحبر العشق وأقلام الشوق ومادة الولة.. ومرصوفة على ورق الحب.. لنجمتين لامعتين في سماء الأدب العربي.
كتاب أعدته سعاد الصباح، وآخر أعدته غادة السمان.
وعندما يخضع الكتابين للنقد الفني.. تخرج غادة من مادة الحديث ولاتحضر إلا كملهمة محبوبة أثيرة يلاحقها كاتب عربي شهير، هو ليس زوجها.. بل إنه متزوج من امرأة ويبرر لامرأة أخرى  خيانته.. حيث يبلغ إعجابه مداه في الكاتبة ويتمدد على مدى صفحات الإصدار الذي أثار ضجة كبيرة وهو يقول لها: (بوسعك أن تدخلي إلى التاريخ ورأسك إلى الأمام  كالرمح. أنت جديرة بذلك(

على الجانب الآخر.. تأتي سعاد في مادة الحديث كمحبة وزوجة وفية وعاشقة لرجل هو زوجها.. تبدأ كتابها كأنها تبتهل: (إنه الوضوء بمياه ضوئك) باعتباره  كتاب وله وشوق منها إلى حبيب غاب تحضره بكلماتها ونبضها وقلبها
أما رسائل "غادة".. فما هو إلا كتاب وله وشوق وعذاب من حبيب غاب إليها.. ليؤكد حضورها.. ويرسخ تميّزها..
سعاد تركت ماتحتفظ به بين أوراقها من رسائل الزوج إليها.. وجمعت مااحتفظ به هو من رسائلها.. فأعادت بث أشواقها الخاصة إلى العلن.
غادة.. فتشت بين أوراقها تلك الأوراق التي تحمل لواعج الأديب المتيم فبث أشواقه الخاصة إلى العلن!

وتشير الدكتورة نورية الرومي الى ان سعاد الصباح كانت سباقة في عصرها عندما تحدثت عن حبها لزوجها.. (الابداع في مواكب الثقافة العربية ص 48)

وفي دراسته التي حملت عنوان: (صوت الآخر في شعر سعاد الصباح) يتحدث د.تركي المغيض عن الحبيب الذي يدخل في باب "النمذجة" كما صورته سعاد الصباح في شعرها.. تحت عنوان: (الرجل الرمز)
(.. وجاء وصفها لزوجها ليس باعتباره زوجا فقط، وإنما كونه يجسد آمال وتمنيات المرأة في الرجل. ولذلك فقد تجاوزت سعاد الصباح في تقديمها لصورة هذا النموذج الذاتية إلى خلق حالة موضوعية، وانتقلت من الحديث عنه كزوج إلى الحديث عنه كرمز.
والمتتبع لسيرة الشيخ عبدالله المبارك مع الشاعرة يدرك مكانته في حياتها فهو الذي أعطاها الحرية وفتح لها باب الحوار مع موهبتها الشعرية وهو من ركب لها أجنحة تحلق بها في عالم الأدب والشعر، وهو الذي هيأ لها فرصة البلوغ إلى أعلى المراتب العلمية والأكاديمية في حياتها, أضف إلى ذلك ما كان للشيخ من مزايا الرجل الحاكم الذي كان له دور كبير في دولته.
يتابع "المغيض": ومن أكثر القصائد تحديدا لملامح الرجل الزوج و الرمز وهو على قيد الحياة قصيدة "هل نسيتم"؟ صاغتها الشاعرة تحت تأثير ظرف محدد ولذلك نجدها تركز على الجوانب العامة الإنسانية في شخصيته:
كان في معشره صدرا حنونا
وسنى..  يبهر بالحب العيونا
وندى كالغيث في كف السماء
وإباء ألمعي الكبرياء
وله قلب الصغار الأبرياء
كله خير وطهر ووفاء
أنسيتم أنه صقر الخليج..
مُشرق الطلعة .. فواح الأريج

وواضح أن سعاد الصباح هنا – حسب المغيض – لم تركز على عبدالله المبارك كزوج وإنما كرجل رمز ومعلم و وطني مخلص ، وقد تحدثت عنه في كتاباتها وحواراتها كثيرا، فتقول عنه بأنه "رجل حضاري بكل معنى الكلمة، يؤمن بالعلم والمعرفة، وبحق المرأة أن تشق طريقها على قدم المساواة مع الرجل، وإذا وصلت إلى ما وصلت إليه من المعرفة فإن عبدالله المبارك كان وراء مجدي وانتصاراتي".
 (علي المسعودي حمامة السلام – ص 91 ومايليها)
يكمل المغيض: وهي لاتجد سواه في حالات الحزن والأسى عندما فجعت بابنها، فتهرع إليه باحثة عن الحنان والحب لأنها لاتملك - وتؤكد الشاعرة على التملك - إنسانا وحبيبا وأما وأبا وحضنا سواه:
(لاتلمني ياحبيبي إن توالى ألمي
واكتست نضرة أيامي بلون الظلَمِ
ولمن أشكو عذابي؟ وعلى من أرتمي؟
أنا لا أملك إلا أنت من معتصم..
أنت أمي وأبي.. أنت حبيبي توأمي.. (من ديوان إليك ياولدي)

وتخاطب الرجل الرمز الذي جاهد عمره وهو يحمل وطنه في قلبه أينما تغرّب شرقا أو غربا، وبعد العودة.. تتحول عندها قصيدة الرثاء في الرجل الرمز إلى قصيدة في الوطن وتمجيده، وتستغل الشاعرة موعد وفاة الرجل الرمز الذي تزامن مع تحرير الكويت، مما سمح لها بالعوده الى الحديث عن فارسها ودوره في خدمة الوطن وتأثير الأحداث فيه:
يا أيها النسر المضرج بالأسى
كم كنت في الزمن الرديء صبورا
كسرتك أنباء الكويت ومن رأى
جبلا.. بكل شموخه مقهورا

واستطاعت الشاعره – يقول المغيض – بمهارتها الفنية في وصف ما حل بالكويت بسبب الغزو العراقي الظالم أن تؤثّر في المتلقي من خلال رؤيتها بأن الذين
دمروا الكويت لم يدمروه وحده.. بل دمروا تلك الذاكرة التي تتحرك بحرية على أرض الوطن:
غدروا بهارون الرشيد وأحرقوا
كتب التراث وأعدموا المنصورا
عبثوا بأجساد النساء ودنّسوا
قبر الحسين ودمّروا المنصورا
لم يتركوا في الحقل غصنا أخضرا
أو نخلة مسياء أو عصفورا
يا سيدي إن الشجون كثيرة فاذهب لربك راضيا مبرورا
***
ثم تنتقل الشاعرة إلى الاطار العام لصورة الرجل الرمز
تنتقل سعاد الصباح الى الحديث عن الجوانب
 العائلية والفكرية فتقول على الصعيد العائلي:

(أنت السفينة والمظلة والهوى
يامن غزلت لي الحنان جسورا
غطيتني بالدفء منذ طفولتي
وفرشت دربي أنجما وحريرا)

يكمل المغيض: وتركز سعاد الصباح على مستوى التفكير العالي الذي كان يتمتع به الشيخ وتشير - إلى جانب مهم في هذا الموضوع كامرأة تحمل رسالة الدفاع عن حرية المرأة وحقها في التعبير عن رأيها - إلى أن الراحل مع حق المرأة في حرية الرأي و التعبير عن نفسها بصراحة وشفافية ودون شعور بالخوف أو القمع، فمن شعرها:

(وحميت أحلامي بنخوة فارس
لم تلغ رأيا أو قمعت شعورا
الله يعلم يا أبي ومعلمي
كم كنت إنسانا وكنت أميرا
أابا مبارك يامنارة عمرنا
يادرعنا وكتابنا المأثورا)



وللدكتورة سهام الفريح دراسة حملت عنوان (سعاد الصباح وخروجها من سطوة القبيلة) تتناول مدلولات ألفاظ محددة تتكرر في قصائد الشاعرة مثل: أميري، سيدي، مولاي..
حيث ترددت هذه الألفاظ في خطابها الشعري ، وكانت للفظة "أميري" الغلبة في كثرة تكرارها، وقد صادفنا هذه الالفاظ في ديوانها (أمنية) وهو يمثل المرحلة المبكرة في نتاجاتها الشعرية فلا بد أن تكون بدأتها في مخاطبتها زوجها الشيخ عبدالله وهو من كان يملك السطوة والنفوذ في الحياة العامة في مرحلة من توليه لبعض المسؤوليات في البلاد فاستعانت الشاعرة بالمدلول العام لهذه اللفظة ليعبر عن المدلول الخاص المتصل بحياتها، حيث كان يغدق عليها الزوج من فيض الحب، فهو اميرها حبا له وتعلقا به.
لكن الشاعرة تعلقت بهذه الألفاظ وأكثرت من استخدامها بمدلولاتها الخاصة بمضامين الحب (....)
وتتعالى هذه الألفاظ بوضوح في خطابها الشعري في قصيدتها (ابتهالات):
(.....)
ثم تلحقها بلفظة "أميري" من ديوان  أمنية ص 117:

يرسم لي وجه أميري الذي
 سلمني في وحدتي للسهر


وتلحّ لفظة "أميري" على الشاعرة في قصائد عديدة:
يا أميري.. أنت يا أطهر من طين البشر..

(أمنية 95)

تقول في نفس القصيدة:

يا أميري إن حبي لك طفلٌ في الصغر

وتشير د.سهام الفريح إلى أن لفظة (السيد) وردت في قصيدتها (فتافيت امرأة) سبع مرات، ثم لحقتها بلفظة (سيدي) في مطلع كل مقطع (سيدي، سيدي) وتعود إليها في مقطع آخر وبنفس التكرار (سيدي، سيدي) الديوان/ 37-48

وحين جاءت بلفظتي (سيدي) (وحبيبي) لم تستغن عن هذه اللفظة في قصيدة (وحدي)

يا أميري، أنت يا من كنت للروح شقيق
أنت كنزي من الرحمة والحب الرقبق
ياحبيبي وسيدي وأميري

- أمنية 74

وتستمر الشاعرة في إعلان استسلامها وخشوعها لهذا الحبيب في قصيدة (خطاب):



(مولاي إن جاء هذا الخطاب..)

وتقول:

(مولاي قلبي في انتظار الجواب..)


هكذا تستعرض د.سهام سطوة مفردات الحب الذي تعلن فيه الشاعرة خضوع قلبها الكامل لحبيبها وأميرها وزوجها، وهو الخضوع بمعناه الإيجابي الذي يأخذ شكل الحب الكامل الشامل... (الابداع 226- 229)


فالحب – حسب رأي د.مختار محمود محمد – يغير الكون بقوته السحرية، حيث يحوّل الليل إلى فجر والخريف إلى ربيع، ذي ألوان وبهجة وسعادة، ولذلك نجدها تخاطب هذا الحبيب في قصيدتها "أنت":

لولاك ماغنت طيور الربى
ولا حلا في الليل طول السهر
ولا تهادى النجم في أفقه
ولا زها في الليل ضوء القمر
ولا تناغى نغم حالم
صفا به العيش وطاب السمر


ويخلص د.مختار في دراسة له حملت عنوان (بين الأمنية والحلم) إلى أن أثر هذا الحبيب واضح في شعر سعاد الصباح ( الإبداع - ص 257)

***

وتظل سعاد الصباح حالة خاصة ونادرة من الوفاء.. يمكن استنباطها من تتبع صورها الكثيرة على مدى تاريخها وهي تقف دوما إلى جانب عبدالله المبارك بشخصه، ثم إلى جانب صوره الكبيرة التي تتصدر القصر الأبيض .. بعد رحيله!

أولمت له في القصر الأبيض.. السفير الكوري يهنيء د. سعاد الصباح بجائزة مانهي








قام سفير جمهورية كوريا الجنوبية لدى دولة الكويت كيم كيونغ سيك وعدد من أعضاء السفارة بزيارة إلى الدكتورة سعاد محمد الصباح لتهنئتها بحصولها على جائزة الأدب للعام 2012  التي منحتها لها جمعية تعزيز وممارسة أفكار مانهي (Manhae) الكورية الجنوبية .

وقد أقامت الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح مأدبة غداء على شرف السفير وطاقم السفارة ، وذلك في مقر إقامتها بالقصر الأبيض، بحضور الشيخ مبارك عبدالله المبارك الصباح.
 وأعربت د. سعاد الصباح عن تقديرها للسفير الكوري الجنوبي الذي يمثل بلاداً تربطها علاقات تاريخية عريقة مع دولة الكويت، وتزخر بالأدباء المتميزين.
وكانت جمعية الصحفيين الآسيويين بجمهورية كوريا الجنوبية قد منحت الدكتورة سعاد الصباح هذه الجائزة، تقديرا لإسهاماتها الثقافية، ومن المقرر أن تتسلم الجائزة في أغسطس المقبل بمدينة إنجيه الكورية.. في الوقت الذي يتسلم فيه المناضل نيلسون مانديلا جائزة السلام من الجهة ذاتها.


الصورة:
د. سعاد الصباح والسفير كيم كيونغ سيك والشيخ مبارك عبدالله المبارك وطاقم السفارة.

الخميس، 26 أبريل 2012

في البدء كانت الأنثى.. للتحميل

فيتو على نون النسوة..



ألقت الشاعرة د. سعاد الصباح هذه القصيدة في جامعة الكويت حيث تم تكريمها في يوم الأديب الكويتي 

وجها لوجه.. في مجلة العربي



 وجها لوجه :  سعاد الصباح وسعدية مفرح






الشاعرة سعاد الصباح.. امرأة لا تعرف الحذر ولا السكون..

          تذكرت وأنا أضع أسئلة لهذه المقابلة ما كنت قد كتبته عن الشاعرة ذات مقال (امرأة تبدأ بإصرار يشبه السكين في رهافته وحدّته.. رحلة شعرية صعبة, رغم أنها تملك أداتها الأولى حيث الموهبة قرار الممارسة, وحيث الوعي بهذه الموهبة وحدودها خطوتها الأولى نحو تحققها الأخير, ورحلة إنسانية أصعب رغم أنها تسير خلالها على طريق مفروش بالمجد العائلي التليد المسيج بزهو السلطة الموروثة ورفاهية الثراء الموروث أيضًا, فالصعوبة عنوان الطريق وعلى حديها الأدنى والأعلى توزعت مقولات الشاعرة المعلنة وغير المعلنة. 
         
هكذا, إذن, وجدت سعاد الصباح نفسها, وفقا لتفاصيل الرحلتين, وهي تعلن ذاتها شاعرة تخوض في تضاريس دقيقة من الشعر والتاريخ والسياسة والنقد والعائلة والحب والوطن في هويته المحلية وهويته القومية, وما يمكن أن يكون خيطًا تنتظم فيه كل هذه المفردات دون أن تطغى مفردة على أخرى تحت وطأة هاجس ما...). 
         
وجاءت الإجابات لتقترح علي مزيدًا من الأسئلة..., (وُلدت وفي أعماقي امرأة لا تعرف الحذر أو الخوف أو السكينة, والتمرد كان سمة روحي...) تقول الدكتورة الشاعرة سعاد الصباح في إجاباتها, وتتساءل: تُرى هل خمد?!), ولعل قراءة لآخر إنتاجات الشاعرة تجيب بالنفي, وتقترح الجديد. 
         
هنا لقاء مع الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح حاولنا من خلاله الولوج إلى عالمها الشعري والإنساني, وقد حاورتها الكاتبة والشاعرة سعدية مفرح من الكويت

: 
مغامرة الشعر
 
• 
كيف انبثق سؤال الشعر تحديدًا لديك, وهل لنا أن نتحدث هنا عن مصادر ومرجعيات زرعت في مراهقتك بذرة الشعر? وهل لنا أن نعرف من هم شعراؤك وكتّابك المفضلون في تلك المرحلة? 
          -
أنت شاعرة مبدعة. قولي لي كيف تعرف الشاعرة أنها قد ولجت المغارة. أتذكر: كنت أردد في الليل ما يشبه الترنّمات, وفي النهار رحت أخربش على الورق ما يلح على الذاكرة من لحن. لم أكترث كثيرًا لذلك حتى أمسكت مدرسة الرياضيات بي متلبسة بالكتابة..

. 
         
قرأت ثم قالت لي فيما يشبه الهمس الحميم: أنت تكتبين شعرًا. ولم أجب, ولم يكن لدينا الكثير لنتسلى به ونسري عن أنفسنا عبق أنفاس الليل. رحت أكتب حتى عرف والدي بأمري, فشجعني وزاد من جرعة الشعر في الكتب والمجلات التي كان يحرص على جعلها زوّادة البيت. 
         
ومنها عرفت الشعراء واتصلت بروحي نسائم القصيدة الجديدة عبر مجلة (الرسالة) المصرية, وكانت يومها أعرض المنابر للفكر في الأدب والنقد وللقصيد. كما كان العراق يومها أقرب البحيرات الشعرية إلى مذاقنا وأوسعها أنهارًا بفضل بدايات حركة الشعر الجديد فيه. لقد كان الاتصال الثقافي بيننا وبين عراق الخمسينيات واسعًا ومؤثرًا وقريبًا. ثم جاء السفر ليمنحني فرصة العمر في التعرّف إلى الشعر الغامر دنيا العروبة في لبنان والشام ومصر وفي المهاجر, وفي التعارف مع شعراء كانوا كوكبة الضوء في عصرهم من أمين نخلة إلى الأخطل الصغير وصلاح لبكي. وحين التقيت بشعر المهجّريين, أدركت أن البحار التي باعدت بينهم وبين وطنهم قد زرعت في صدورهم الوطن, ومعه رشاقة وجدة في الكلمة الشعرية. 
         
عندما أتيح لي أن أقرأ إيليا أبو ماضي وشعر جبران المنثور ومطالع شعر نزار قباني, وقد بدأ يزهو في الأوراق الجديدة, أقبلت على القراءة في نهم لا يشبع صاحبه ولا يرتوي. 
         
بالطبع كان شوقي وحافظ إبراهيم ملء السمع والعين, كذلك طه حسين والعقاد والمازني. لقد أعطاني السفر في رحلاته, ثم في استقرار في لبنان ومصر, فرصة العمر لإغناء روحي, وقد غنيت. 
         
وعلي الاعتراف بأنني لم أكن صبية هادئة أو مستكينة. لقد ولدت وفي أعماقي مهرة لا تعرف الحذر أو الخوف أو السكينة. التمرّد كان سمة روحي (ترى هل خمد?) في كل ما أقدم عليه كتابة أوحديثًا أو سلوكًا. كنت أحسّ بأني مسكونة بالعاصفة وأن الزمان هو زماني. كنت أحسّ بثقة كبيرة بنفسي, فما أقرره أعلنه وما أعلنه أفعله, مادام ذلك في حدود قررتها لما يجوز ولما لا يجوز. ولم أخضع للمعادلات المنصوبة كالشراك في وجه المرأة, لذلك كنت ثائرة حقيقية على كل ما يقيد حقي. وقد ساعدني أن يكون لي الزوج - الخيمة: يفهمني ويقبل ثورتي وينصرني على كل محاولة لجعلي امرأة رمادية. كان عبدالله المبارك ناصري الأول وسندي, فازددت به قوة وغنمت بفروسيته رهان القتال.
. 
• 
ألم تخشي أن تكون الآراء النقدية المشجعة لتجربتك الشعرية في بداياتك متأثرة بوضعك الاجتماعي المتميز? وهل كانت تلك الآراء المبكرة متأثرة فعلا بذلك الوضع وفقا لتقويمك الراهن? وهل تتذكرين أبرز ما كتب عنك في تلك المرحلة, ومَن كتبه, وكيف تلقيت تلك الكتابة? 
          -
يجب الإقرار بأن كتاباتي قد جوبهت بحالتين: القبول الاعتيادي حيث عوملت كلماتي شأن كل شاعرة جديدة. والحالة الثانية كانت مزيجًا من تشجيع ومديح مشوب بواقعي سلبًا وإيجابًا. أي أن بعض ما قيل كان مديحًا بأكثر مما أستحق, وبعضه: كتابة أو حديث دواوين كان ظالمًا دون حق. 
         
لعل هذا ظل حال النقد معي طويلاً حتى توقف النقّاد الحقيقيون عند تجربتي, فكانت الآراء المنصبّة على التجربة بدل الخطأ المزدوج في التعامل مع صاحبتها أولاً ثم معها. في الحالين عانيت, فأنا لا أريد في تجربتي كلامًا يرفعها إلى درجة الإعجاز, ولا أريد أن يظلمها أحد بوازع غير نقدي وغير عادل أيضًا. لقد كانت تلك الحقبة مضطربة عمومًا, ولم أعبأ خلالها بما يقال, حتى وإن كان سكرًا وأرزًا مسكوبًا, لذلك لم أحتفظ بورقة واحدة مما قيل عني في تلك المرحلة, ولم أكن لأعنى كثيرًا بما يقال. ولم أكن مستعدة للتوقف لحظة واحدة عمّا أريد وعمّا أقول, لذلك مضيت إلى شئوني دون أن أسمح لأغصان الشجر بإعاقة نهر الأمل والإبداع. 
فتافيت التحول 
• 
شخصيًا أرى أن مجموعتك الشعرية (فتافيت امرأة) تعتبر مفصلاً مهمًا واضحًا جدًا في تجربتك الشعرية حيث انتقلت من خلالها إلى مرحلة جديدة في كتابة النص الشعري. فهل توافقينني على ذلك? وما ظروف إنتاج تلك المجموعة بالذات? 
          -
لو عدت إلى التذكر لما أدركت الجواب. 
         
إن حياتي كانت من العمق والتجارب في الأزمنة والأمكنة وفي تلاحم المشاعر واضطرابها المولد للشعر بحيث يستحيل علي الوقوف لتفصيل المراحل. لقد تأثرت كثيرًا بتجارب الشعراء التي راحت بيروت تهطل بها من سماء الشعر العربي مولدة ثورة في الكلمات وفي الشكل الشعري المدهش. بيروت هنا, ومرة أخرى, عادت إلى لعب دورها كناموس للشعر, وقاموس جديد لحروفه المولودة من شعراء عرب حملوا هويات العراق والشام وفلسطين. لقد فتحت المغارة أبوابها من جديد ليطلع الشعر مسكوبًا كالورد والبندقية والسكين في حياتنا. وضمن هذا الزخم المتناسق مع رديفه في أوربا, ولندن تحديدًا, ولد إنسان شعري جديد في مئات الصدور والأصوات, ومنها هذه الفتافيت, التي أوافقك على أنها شيء آخر في حنجرتي. 
• (
فتافيت امرأة) قدم نموذجًا للمرأة العربية التي تعاني معوقات تقف أمام حلمها الإنساني في الحرية, فهل تعتقدين أن هذه المرأة يمكن أن تتجاوز ذلك النموذج قريبًا, وهل من فضاء يمكن أن يحتوي كل هذه الثورة التي احتوتها المجموعة? وإلى أين تمضي خيارات المرأة العربية الإنسانية في ظل مجتمع ذكوري ينظر للمرأة بتشكك كلما حققت نجاحًا ما? 
          -
من أعماق الحزن أقول: لا. لقد تراجعت عربة التمرّد القادرة على اجتياز السدود وازدادت المعوقات قوة, واكتسبت أحلامنا مناعة العجز عن اختراق الحجب. إنني حزينة لأن المرأة هي المتراجع الأول, وهي الجسر الذي يبني عليه خصومها مسارهم. لقد شهدت السنوات المنصرمة بعض الانتصارات النظرية, ولكن واقع المرأة العربية اليوم ليس في أحسن مشاهده. بالطبع هناك مؤثرات على الثورة تولد نارها ولكن, وبالمقابل, هناك مياه غزيرة تجهزت لمواجهتها ولإطفاء شعلتها المقدسة. إن المرأة العربية ليست مدعوّة للثورة على غيرها, بل على نفسها أولاً لتخرج من قارورة العطر أو قارورة الزيت التي حبست نفسها فيها. كنت أدعو المرأة للثورة على العقلية الذكورية, وأنا اليوم أدعوها إلى الثورة على ذاتها لأنه ما لم تحقق انتصارها على هذه الذات, فكل انتصار آخر يبدو باهتًا. 
التفعيلة والنثر 
• 
تبدو قصيدة التفعيلة وكأنها الأكثر قدرة على التعبير عن هواجسك الشعرية, هل اخترتها عن سابق إصرار, بعدما مررت بالقصيدة العمودية وجربت قصيدة النثر قبل أن ترسو سفنك بشكل نهائي على شواطئ قصيدة التفعيلة? 
          -
ذلك بالتأكيد هو التأثر بالعام وبالخاص, لقد طفت قصيدة التفعيلة شكلاً مثيرًا وجديدًا للكلمة الشعرية, متناسبة مع حركة الثقافة الذاتية, ومع التحوّل الذي لا مفرّ منه لمن يعايش تجارب الآخرين, فيأخذ منها ويأخذون منه. إن هذا التفاعل كان حتميًا في تجربة مئات الشعراء العرب ولايزال فاعلاً في غالبية مبدعيه, لاتساقه مع التموّج الداخلي للشاعر. 
• 
كيف تنظرين لإنجازات قصيدة النثر على الصعيد العربي, خاصة أنها صارت الخيار المفضل لأكثر الشعراء العرب في السنوات الأخيرة, هل ستلغي قصيدة النثر بقية الأشكال الأخرى? 
          -
فلنتفق على الاختلاف لأنني لا أرى أن قصيدة النثر (قد صارت الخيار المفضل لأكثر الشعراء العرب في السنوات الأخيرة). طبيعي القول أنها قد حققت موقفًا متقدمًا جدًا عمّا كانت عليه في بداياتها, في الستينيات, ولكن قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية لاتزالان خيارًا عريضًا فيما نقرأه. أقول ذلك وأنا واحدة من صاحبات الصوت الشعري في قصيدة النثر, وديواني (قصائد حب) صدر باسمها, وفيه أودعت دفقات غالية من الشعر, ولكنها لم تكن التزامًا نهائيًا. 
• 
لكل جغرافية معدلة مجموعة من الالتزامات التي قد تكون عادات أو تقاليد أو تعاليم دينية أو اجتماعية, هل وجدت نفسك, كمبدعة, وفي لحظة من لحظات إبداعك الجميل متلبسة بالخضوع لهذه الالتزامات? 
          -
التزاماتي حددتها بنفسي لنفسي سواء في الحياة المعيشة أو في الحياة الثقافية, على تعدد مناحي إبداعها. طبيعي القول إن الإنسان متأثر, وأحيانًا محكوم, بمعطيات فرضتها عليه ثقافته الاجتماعية, ومنها التزامه الديني, ولكن أليس صحيحًا أننا نخلق حدودنا بإرادتنا, ونتمرّد على ما لا نريد حين يلزم. منذ وعيت, أدركت حدودي ورسمت فيها التغيير الذي يتناسب مع إرادتي دون أن أخرج على ثوابت لاتزال عميقة الجذور في كياني, عرفتها وارتضيتها 
والتزمت بها. 
الشعر.... والاقتصاد 
• 
هل أثرت دراستك المتعمّقة للاقتصاد, باعتباره الحقيقة الممكنة في نصك الإبداعي باعتباره الحقيقة المتخيّلة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة? سلبًا أو إيجابًا? 
وبالمناسبة أيضًا: لماذا كان الإصرار من جانبك على خوض المسار الأكاديمي في مجال الاقتصاد مادامت خياراتك الشعرية قد تحددت منذ فترة مبكّرة من حياتك? 
على الصعيد نفسه: ألا تخشين على عفوية قصيدتك من حذر الاقتصادية لديك? 
          -
لم أدرك يومًا مثل هذا التأثير, ولم أشعر به ذلك أن دراستي للاقتصاد كانت في حد ذاتها هادفة إلى خدمة المجتمع, وليست مجرد دراسة للمبادئ والنظريات بشكل تجريدي. لقد أدركت منذ بداية وعيي أن الشعر ليس دراسة, وأن الدخول في كلية الآداب لا يخدم قضية الوطن بقدر ما تفعل الدراسة في الميدان الاقتصادي الذي يحتاج إليه بلدي. وقد عرفت من تجارب الشعراء الأطباء والقاصّين الأطباء وكبار الأدباء المتخصصين في رحاب العلوم أن الجمع بينهما ليس بالأمر العجيب أو المستغرب, وفي كل تجارب الآخرين, وفي تجربتي, طغت الكلمة الشعرية على كل الأقاليم الأخرى. 
• 
نعرف أيضًا أنك تمارسين الرسم بروح الهاوية وجدية المحترفة, فكيف نشأت علاقتك مع اللون? وما الفرق بين اللوحة والقصيدة في القدرة على التعبير عمّا يعتمل داخلك? 
          -
علاقة قديمة تزامنت مع الهاتف الشعري وغابت زمنًا لتعود. في اللوحة, وهذا امتيازها الأول, الفضاء الرحب لا يشبه غيره ولا يملك حيزًا يستحيل تجاوزه, بينما في الشعر ذلك قائم. في اللوحة يملك الرسام الفكرة وحرية التعبير دون قيود ودون أن يأخذ في الحسبان عاملاً من خارج الذات. 
أنا ونزار 
• 
تعترفين دائمًا بتأثرك الشديد بمدرسة نزار قباني الشعرية, فمتى بدأ هذا التأثر? ولماذا نزار قباني بالذات? 
وهل يزعجك إشارة الكثيرين ممن كتبوا عنك إلى علاقة نصك الشعري بالنص النزاري بطريقة اتهامية رغم أن كثيرين غيرك من الشعراء العرب تأثروا بتجربة نزار دون أن يشير لذلك أحد من النقاد? 
          -
دعيني أبدأ من النهاية فأكرر تساؤلك (رغم أن كثيرين غيرك من الشعراء العرب تأثروا بتجربة نزار دون أن يشير لذلك أحد من النقّاد). هذا التساؤل الذي تطرحين يحمل الجواب, وإن لم يكن يحمل التفسير. 
         
أما في التفسير, فأحسب أن أي قارئ للشعر العربي, وبخاصة الغنائي, يعرف اليوم أن هناك مئات القصائد التي نشرت أو لحّنت أو غنّتها الحناجر مفصلة على المقاس النزاري, ولكن, كما قلت, دون أن يشير أحد من النقاد, ولا يشيرون الآن إلى ذلك. السبب أنني شاعرة عربية من هذه البادية الممتزجة بالبحر, وأن لي نسبًا, لنعترف أنه كبير. لذلك كانت هجمة الجراد البارد على شعري. ولنعترف أيضًا أن هناك من أبناء البلد الواحد, مَن كان يسعده أن يلقي حطبة في النار ليرتاح إلى ما يحسبه الهشيم, دون أن يدري جميع هؤلاء أن موقفهم مني وليس من شعري, وهذا هو اللب, قد زادني إصرارًا على امتشاق الشعر والضرب به, وقد ربحت الرهان. 
         
لا توجد امرأة عربية تفك الحرف, لم تهرول إلى دواوين نزار. وهل تحسبين مئات الألوف من نسخ دواوينه زوّادة الرجال وحدهم. إن دواوين نزار لاتزال الأكثر مبيعًا على امتداد هذا الوطن. 
• 
هل نحن كخليجيين نتاج زواج موفق بين البحر والصحراء, وهل أصبح تراثنا الصحراوي يتغلب على تراثنا البحري في الآونة الأخيرة مما يهدد تلك العلاقة ويؤثر في الشخصية الخليجية التي هي نتاج هذه العلاقة المميزة والدقيقة? 
          -
أحسب أن هذا التزاوج يواجه خطر الاضمحلال بسبب إهمالنا لتراثنا: بحرًا كان أم صحراء. لقد دخلت في تكوين ذواتنا عوامل جديدة خارجية, ويقبلها معظمنا دون تروٍ وينهل منها دون ارتواء مما يشكل خطر الإلغاء للموروث الجميل الذي حدد مفاهيمنا ونفسياتنا. 
• 
كمثقفة, وكواحدة ممن كانوا على تماس عال مع السلطة, كيف تنظرين لعلاقة المثقف بالسلطة في مجتمعاتنا العربية? 
          -
أرجو ألا يختلط الأمر علينا لأن علاقة المثقف الكويتي بالسلطة مختلفة تمامًا عن علاقة المثقف في الأقطار العربية الأخرى بالسلطة. المثقف في الكويت ينعم بكل ما يحتاج إليه غيره من كفاية وحرية عامة ومن قدرة على الرفض, وجميعها لا تتوافر للمثقف العربي في العديد من مجتمعاته. لا يجوز قياس علاقتنا هنا بالسلطة بمثيلاتها العربيات لأن المواطن الكويتي أساسًا له علاقة متميزة بالسلطة لم تتوافر للعرب الآخرين في معظم تلك البلدان. المثقف العربي في علاقته بالسلطة في بلده يعاني تضييقًا كاملاً على كلمته وعلى حريته وعلى رزقه وليس هذا حالنا والحمدلله. 
دار للنشر 
• 
لم تكوني تعانين أبدًا مشكلة على صعيد نشر كتبك عن طريق كبريات دور النشر العربية, ومع هذا فكرت بإنشاء دار نشر خاصة تحمل اسمك? فما الأسباب وراء إنشاء هذه الدار? 
وعلى الصعيد نفسه, تميزت الجوائز الأدبية والعلمية التي تقدمها الدار بأنها مخصصة للشباب العربي بالذات. فلماذا هذا التحديد العمري بالنسبة للمتقدمين للجوائز? وكيف تقيمون التجربة بعد مرور أكثر من عقد ونصف العقد عليها? 
          -
لم أؤسس (دار سعاد الصباح للنشر) حتى أنشر ما أكتب: شعرًا أو نثرًا. 
          (
دار سعاد الصباح) وجدت لتكون منبرًا للأصوات المبدعة في كل قطر عربي وتشهد لها بذلك مئات العناوين التي صدرت حتى اليوم. لقد تصورت, حين تأسيس الدار, أن بمقدوري إضاءة شمعة ثقافية وأحسب أنني فعلت. وقد قررت أن تكون الدار قاعدة لنشاطات ثقافية متعددة منها المسابقات الثماني التي كنا نستمر في إجرائها سنويًا منذ العام 1988 حتى العام المنصرم حين تحولت لتصبح كل سنتين وذلك لإغناء التجربة وحرصًا مني على سويتها. أما عن الحد العمري (30 عامًا) فهو واضح من ارتباط المسابقات بالجيل الجديد الذي أردت أن أفتح أمامه نوافذ الضوء, قدر المستطاع. الغاية هي خدمة هذا الجيل. 
         
إذن كان الشرط العمري ضروريًا. وأحمد الله بالقول إن التجربة كانت أكثر من رائعة ويكفينا أن عدد المساهمين في مسابقاتنا العلمية والأدبية يتجاوز الخمسمائة مساهم وهذا عدد كبير نفرح لمبادرته إلى إعداد الدراسات أو ابتكار النصوص الجديدة. لقد أصبحت (مسابقات الشيخ عبدالله مبارك الصباح للإبداع العلمي) و(مسابقات سعاد الصباح للإبداع الفكري والأدبي) علامة مضيئة على درب الثقافة العربية والحمدلله. 
         
ومنذ تأسيس الدار وضعت الحدود التي لا أقبل تجاوزها: 
         
لا نشر للنص الذي يتعارض مع القيم, بكل أبعادها. نحن لسنا تجار شنطة ولا حسبت هذه الدار يومًا مصدر دخل, قليل أو كثير. بل هي, كما تعلمين, دار مختصة بالخسارة المالية وبالكسب المعنوي الثقافي. للربح أبوابه وأساليبه وقد نذرت الدار لغرض أكبر من ذلك. وأذكر أنني في بداية التأسيس كنت أستشعر حاجة الكويت إلى رمز ثقافي جامع للأصوات العربية وهذا ما هدفت إليه الدار منذ تأسيسها الذي تم في ذروة محاولات المشوهين تجريد الكويت من سلاحها الثقافي وتوظيف الثقافة في ركب الطغاة. وأحسب أن هذه الدار قد شكلت جسرًا عاليًا للتفاهم الثقافي بين الكويت والمبدعين العرب. 
رقيب داخلي 
• 
كيف تتعاملين أنت شخصيًا كمؤلفة وكمبدعة مع الرقيب الداخلي والخارجي? هل تتحايلين عليه? هل تتجاوبين معه? أم أنك ترفضينه أساسًا? 
          -
لم أحسب يومًا حساب الرقيب الخارجي, تاركة النتائج للتقويم الرسمي دون التدخل في قراره. أما الرقيب الذاتي فلا أحسب أنه كان شديد التحذير والقسوة.  اليوم, أحسب أن العمر والتجربة والاهتمامات المتغيرة تشكل هيكل الرقيب الداخلي. 
• 
أصدرت دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع عددًا من الكتب التكريمية لعدد من رموز ورواد الثقافة العربية الأحياء مثل نزار قباني وإبراهيم العريض وعبدالعزيز حسين وثروت عكاشة وعبدالله الفيصل فلماذا هذه المبادرات بالذات? وهل تعتقدين أن أولئك الرواد الذين تحققوا ثقافيًا وتكرسوا إعلاميا بشكل نهائي بحاجة لمن يكتب عنهم في أواخر أيامهم فعلاً? ومن خلال التجربة كيف تلقّى أولئك الرواد تلك المبادرات? 
          -
كلما تقدم العمر بالمبدع, عادت إليه طفولته. هكذا أرى. لذلك فالمبدع شديد التأثر بمبادرة التكريم التي تهدى إليه, كما في الإطار الجميل الذي سبقنا إليه. أنا لا أقدم للمبدع مالاً ولكنني أهديه ما هو أغلى: الشكر عرفانًا بما أعطى, وهو المستحق له خاصة في مجتمعاتنا التي لم تتعود أن توجه الشكر للمبدع. وردات فعل المبدعين الذين كان لي شرف تكريمهم ترقى إلى سوية الخيال وأحسب أنني بهذا التقليد قد زرعت بذرة وفاء. 
• 
نعرف أنك قضيت شطرًا من حياتك الدراسية في أكثر من بلد منذ الستينيات, وحتى الثمانينيات, ماذا بقي في الذاكرة من ملامح ومواقف ومشاهدات في تلك البلدان من تلك الفترة الدراسية? وأي البلدان - المدن الآن تفضلين أن تقضي بها جل وقتك? 
          -
أكاد أجزم بأنني أعرف على هذه الأرض أكثر من نصف مساحتها, وغالبية شعوبها. لا يكاد يمر اسم دولة أو مدينة أمامي إلا وتكون ذكرياتي قد سبقت إليه. لقد أغنت رحلاتي, وبخاصة تلك التي ترافقنا فيها, أبو مبارك وأنا والأولاد, أغنت عقلي وروحي وتركت في أعماقي هدير البحار والأنهار, وبياض الثلوج وعذابات الوجوه وجمال الغابات وصهيل الخيول.أما الذي بقي من ذكريات وعلامات فلا يتسع لها هذا الحيز من الورق لأنها تصلح كتابًا عامرًا بالعطر وبالدمع والحزن والبهاء. يبقى لي أن أقول إن الكويت هي أجمل المدن في عيني, لأن فيها أسرتي وصوتي وصداقات العمر الجميل وذكريات من كان ضوء ليلي الطويل. 
آخر السيوف 
• 
لقصيدة (آخر السيوف) التي كتبتها رثاء لرفيق العمر الراحل الشيخ عبدالله المبارك الصباح خصوصية يعرفها كل من اطلع على تجربتك الشعرية بشكل عام. فلماذا هذه القصيدة بالذات اخترت أن تكتبيها وفقًا للنسق العمودي الكلاسيكي? 
          -
لم يكن لي اختيار. الشاعر قبل سواه يعرف بالتجربة كيف يهطل مطر القصيدة على الروح. وإذا كان لي أن أفسر, وأنا أعترف بأنني لا أحب تفسير شعري حتى لا أسرق دور الناقد, فربما أن نظرتي إلى عبدالله المبارك كسيف كويتي كانت هي السبب. 
         
لقد كان بالنسبة لي جملة من عيون التراث: السيف والخيمة ونار الليل المضيفة للعابرين والمنيرة دروبهم, لذلك, ربما, ارتدى الحزن عليه عباءة الشعر المعتقة بالطيب. 
الإنسان العربي وحقوقه 
• 
لك اهتمامات كبيرة وواسعة بقضايا حقوق الإنسان. فكيف تنظرين لحقوق الإنسان العربي راهنًا? وما الذي يمكن فعله من جانبه ليحصل على كامل حقوقه الإنسانية في ظل حكومات لا تعترف بها? 
          -
لم تكن قضية حقوق الإنسان العربي في حال أفضل مما هي عليه اليوم. لا أعني أنها في أفضل حال بل هي اليوم أفضل مما كانت عليه بالأمس وأسوأ مما ستكون عليه غدًا. إنني متفائلة بأن نضالنا الذي أسسنا له منذ العام 1982 في مؤتمر قبرص قد بدأ يؤتي ثمارًا طيبة. لقد مضى وقت كانت فيه عباءة (حقوق الإنسان) رديفًا للطرفة أما اليوم فإنها قضية لا يستطيع أي نظام أن يلقي بها من نافذة الحكم. الأهم في رأيي هو موقف المواطن العربي من حقوقه. كان يسمع بها ثم راح يتحدث عنها واليوم هو يعرفها ويطالب بها بل ويسجن من أجلها. لم تعد حقوق الإنسان العربي تسلية سياسية أو إعلامية بل هي قضية في كل دولنا, تتقدم الكثير مما عداها وتحتل الصدارة في المحادثات الرسمية أو البيانات. إنها هناك وهذا هو المهم. يبقى أننا مدعوون إلى العمل الموحد من أجل وضع تعريف واحد لهذه الحقوق والسعي لإقرارها ولجعل هذا الإقرار جزءًا صادقًا من برامج العمل السياسي لمن يحكم ولم يستعد للحكم. 
         
إنني أشعر بفرح غامر وبالاعتزاز عندما أستعيد سيرة الأيام الأولى لنضال كوكبة من الرجال والنساء حملت 
مهمة إيصال صوت الإنسان العربي إلى أركان السلطة العربية لتصبح حقوق الإنسان العربي شرعية. 
سعاد.. الجدة

 
• 
نتحدث الآن عن سعاد الصباح في بيتها كأم وجدة. كيف يمكن لك أن ترسمي لنا الخريطة التي تتحركين ضمن حدودها وفقًا لهذه الصفات? 
          -
أبدأ مع سعاد (الجدة) هذه الكلمة التي تشقي كثيرات ويتهربن منها, لله كم رائعة هي لفظًا وحياة. ليست عندي الكلمات التي تكفي للتعبير عن صباح يبدأ بالتأكد من أن هذا الحفيد أو تلك الحفيدة قد أكملت هندامها للذهاب إلى المدرسة. هل مشطت شعرها? هل تناولت الفطور? كل واحد يستكمل استعداده وأنا أحمل قلبي وأهرول مستحثة التعجيل حتى يكون الأولاد في المدرسة, في الوقت المحدد لهم. وحين يجيء موعد العودة يبدأ يومي الحقيقي إذ أتفرغ لمتابعتهم ومن بعدها كتابة الوظائف المدرسية ويحين بعدها موعد الراحة, ليليه موسم التسلية والركض في البيت. صدقيني عندما أقول إنني استعدت ثلاثين عامًا من العمر ومن يزرني ويرى كيف يدخل علي هذا الحفيد أو هذه الحفيدة ليشكو أمرًا أو ليطلبه يعرف كيف تستطيع الأحرف المتناثرة كالكلمات المتقاطعة أن تجدد العمر.الأم يتقلص دورها في هذه المرحلة فالأولاد قد كبروا والحمدلله ولكل منهم, الشباب والصبايا, عالمه واهتماماته, وعندما يستشعرون الحاجة إلى النصيحة أعطيها دون أمر. 
• 
أي مشاريع مقبلة تحظى باهتمامك, يا ترى? وما هي أحلامك المستحيلة على هذا الصعيد?ليست هناك أحلام مستحيلة. ولا أحاول أبدًا أن أنشغل بهذا. دائمًا كنت أضع في اعتباري العمل والكفاح من أجل هدف قابل للتحقيق إذا ثابرت على السعي وراءه. لذلك, فإن الأحلام المستحيلة لم تأخذ في خيالي حيزًا وإن كان بعضها قد عبر المخيلة في ساعات من ليل على ضفاف بحيرة أو عند طرف سفينة تحمل أطيافها على غيمة ماء. يشغلني اليوم, كما بالأمس, هذا الوطن وإنسان هذا الوطن وكيف يمكن أن أبني مع البناة, عالمًا جميلاً طاهرًا ومفعمًا بالمحبة والتراحم والعطاء اللامحدود من أجل حياة أنبل وأكثر ديمومة وهناء. لقد حلمت فعملت من أجل سعادة الآخرين وكنت وماأزال أرى سعادتي عبر ضحكة على وجه امرأة أو بسمة في عيني طفل. وعندما أعرف أنني قد أضفت قطرة ندى على ابتسامة إنسان أكون قد حققت ذاتي وامتلأت بنعمة الله عليّ. 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-
نشر في مجلة العربي/الاول من فبراير 2005
http://www.alarabimag.com/arabi/common/showhilight.asp