الاثنين، 17 سبتمبر 2018

الكتابات النقدية حول تجربة الشاعرة سعاد الصباح (نقد النقد) - د.نزار العاني


ــــــــــــــــــــــــــــ


مقدمة:
من الصعب جداً الحديث عن فضاء تجربة الشاعرة سعاد الصباح في محاضرة أو ندوة وخلال زمن محدد . الحديث عن تجربتها الشاملة أشبه ما يكون بالطلب من حمّال أن ينقل على ظهره حمولة شاحنة كبيرة من السفح إلى ذروة الجبل ! لذا قررتُ اختيار قطرة صغيرة من بحر تجربتها ودراسة ما قاله بعض النقاد في كتبهم عن صفاء هذه القطرة وعذوبتها ونقائها .
سأختار فقط ستة كتب نقدية حاولت السباحة في بحر شعر سعاد الصباح والخوض في عبابه والرسو في مرافئه الزرقاء الباهرة ، وإلقاء الضوء على هذه الكتب والدخول إلى متونها من باب "نقد النقد" ، وبهذا الإختيار أكون قد قدمتُ لكم معرفة جديدة،وساهمتُ في تلوين شواطىء  بحر شعر سعاد الساحر بفيروز الحب وليلك التمرد وبياض التنوير .


1ـ النص والنص الغائب في شعر سعاد الصباح (227 صفحة) / د. عبد الملك مرتاض


مائتان وعشرون صفحة من القطع الكبير لدراسة قصيدة واحدة لا غير من قصائد الشاعرة ، وأعني قصيدة "كُنْ صديقي " . وهذه المحاولة  ، أي تكريس كتاب كامل للإحاطة بقصيدة واحدة ، هي محاولة فريدة في النقد الأدبي .
الدكتور مرتاض ناقد مثقف كبير ، وعتاده المعرفي يخيف أي قارئ ، ويملك عقلاً متسائلاً وجريئا يقترب به إلى رواق الفلسفة ، وقد وظف كل هذه القدرات لإجلاء مواطن الجمال الخفية في هذه القصيدة الشهيرة . والمجهود النقدي التحليلي واللغوي والبياني والبلاغي المبذول في هذا الكتاب لاستقصاء بواطن وخفايا قصيدة " كُنْ صديقي" لاتضاهيه دراسة أخرى موازية في الأدب العربي الحديث .
يقسم الناقد القصيدة إلى ست لوحات شعرية ، وإلى أربع وعشرين وحدة نسجية ، ويكد ويجتهد ويحفر وينقب للإمساك بجوهر القصيدة . وهو في مدخل كتابه يحشد أسماء سقراط وكوندياك وديكرو وتودوروف وكانط ودريدا وأرسطو وأفلاطون وهيجل وروسو ودوسوسير وهدجروهوسرل وهارتمان ونيتشه وبارت وإيكو وغيرهم . ثم يستعرض كل مدارس النقد الحديثة  : تقنيات القراءة ، نظرية التلقي ، علم الدلالة ، الكتابة الصوتية، ملكة المعرفة ، اللسانيات والكثير غيرها .  وتكتظ مقدمته بالمصطلحات النقدية : واحدية النص ،السيمائيات ،اللوغوس أو العقل الأول ، التقويض أو التفكيك ، التأويل ، المقصدية  ... إلخ .
إن قصيدة "كُنْ صديقي"  الجميلة بعفويتها وطلاقتها وصدقها لا تحتمل كل هذه الترسانة النقدية لتشريحها وإزاحة النقاب عن بعض الغموض والظلال الخفية التي تنداح في كلماتها وجملها ، ولعل صوت ماجدة الرومي حين غنتها كان أكثر فصاحة من كل هذه الأسلحة النقدية والأكاديمية التي فتكت بجسد القصيدة الطري !
سعاد الصباح منذ كتبت قصيدتها الأولى وإلى اليوم ، تمسك بخيط من حرير ، وفي طرف الخيط طائرة ورقية ملونة ، تتأرجح مختالة بين وسادة الريح وأحلام الزرقة الساحرة ، وترنو طائرة الشاعرة أو قصيدتها على فضاء الأماني السارحة بين الغيوم ، وتجمع الضوء والندى  لتسقيه للظامئين للحب . ومثل هذه الطائرة الورقية / القصيدة لا تحتاج إلى طواقم تقنية من الناسا لتشرح  لنا أسرار دينامية الطيران النفاث . إن د. مرتاض  استعان بوكالة الفضاء الأمريكية (الناسا) لدراسة "كُنْ صديقي" ،واسترسل لتدبيج نص من خمسة وثلاثين ألف كلمة للإحاطة بمئتين وخمسين كلمة !! وباعتقادي الشخصي ، انحنى ظهر القصيدة تحت وطأة هذا العبء النقدي التحليلي التفكيكي التأويلي السيميائي . وسأبقى أحب القصيدة بوجهها الطبيعي دون ألاعيب الماكياج التي حاول د.مرتاض أن يزين بها جبينها وخصلات شعرها وكحل عينيها . لكن وقد أعطيتكم فكرة مقتضبة عن الكتاب ، أود أن أقول كم يحتمل شعر سعاد الصباح أن يكون ساحة مفتوحة للدرس المُعمّق ، وهذه هي الفضيلة الراسخة التي يؤكدها الكتاب المذهل بمنهجه وعمقه وعلو كعبه .
وإذا سألتموني ماذا أنا كاتب عن قصيدة "كُنْ صديقي" لو طُلب مني ذلك لقلت : سأدرسها كاملة في أفياء رسالة "الصداقة والصديق" لأبي حيان التوحيدي ، فكاحل القصيدة يقع على كاحل الرسالة ، وكم جال في خاطري تعريف أبو سليمان للصداقة الذي ينقله أبوحيان : (
قلت فما الفرق بين الصداقة والعلاقة؟ فقال: الصداقة أذهب في مسالك العقل، وأدخل في باب المروءة، وأبعد من نوازي الشهوة، وأنزه عن آثار الطبيعة، وأشبه بذوي الشيب والكهولة، وأرمى إلى حدود الرشاد، وآخذ بأهداب السداد، وأبعد من عوارض الغرارة والحداثة) ولكنت أقمت جسراً يصل بين سعاد والتوحيدي ، وفرشتُ حاضرها فوق روابي ماضيه !


2ـ عزف على أوتار مشدودة : دراسة في شعر سعاد الصباح (362 صفحة) / د.نبيل راغب
يحق للشاعرة سعاد الصباح أن تتباهى بهذا الكتاب الفريد الذي أملك الشجاعة الموضوعية والمعنوية لأقول عنه أنه درّة نقدية ، في منهجه ورصانته وإحاطته الشاملة بتجربة الشاعرة الخصبة .
منذ سنواتي الجامعية الأولى في مطالع ستينيات القرن الماضي وأنا أتابع بشغف مقالات نبيل راغب ، ورسائله النقدية لبعض المجلات الأدبية العربية ، وكتاباته واسعة الطيف وثقافته الغربية العميقة ، وقبل أن يبدأ بإصدار مؤلفاته التي تجاوز عددها الستين كتاباً ، غير المترجمات والأعمال الإبداعية الكثيرة .
نحن أمام ناقد وكاتب مثقف من العيار الثقيل . ولهذا قلت أن من حق الشاعرة الكبيرة سعاد الصباح أن تتباهى بهذا العمل . وهذا العمل في منهجه ومقاربته لتجربة الشاعرة ينهل من الأساليب النقدية التقليدية وأكاد أقول المدرسية ، وذلك لأن فصوله الخمسة ، هي ثوابت  أو محاور شعرها ، وهي العبق الرومانسي ،الإيحاء الصوفي ،المرأة، الحس القومي الحضاري والوحدة العضوية الفنية الجمالية في قصيدتها .
يتتبع الناقد هذه المحاور الأصيلة  الخمسة ويكتب بعمق عن حقيقتها وحضورها في نصوص وقصائد ودواوين الشاعرة ، وكيف يتلاقى شرر قصيدتها بالوهج المبثوث في نصوص الشعراء الكبار في تاريخ الأدب الإنساني ، وأين تبتعد عنهم وتفارقهم ، وتنويعاتها الذاتية على نغمة الحب لدى الرومانسيين .
ويرى في محور الإيحاءات الصوفية لدى سعاد ، أنها تتوغل بعيدا لكشف الغطاء عن أعمق ما في مشاعر الإنسان العربي من خصال ومثالب ، وأن رؤاها  وبصيرتها  سمحت لها أن تلمح الجحيم عند بودلير ، والجنة عند دانتي ، وبحدس زاخر باليقين أمسكت بتلابيب ظروفنا العربية الملتبسة ، وحاولت المستحيل للقبض على حقائق الأشياء ، لمغادرة الإدراك الصوفي ومتاهة أوهامه ، وإرشاد الذات العربية إلى مشارف العقل وشواطئ اليقين . يقول د. نبيل : " تقترب سعاد الصباح من فكرة هيجيل التي تؤكد على أنه لا شيء حقيقي إلا الروح ، وهذا لا يجعلها تثق بالمنطق كثيرا وإنما بالحدس " ص 122 .
في محور المرأة ، يصول الناقد ويجول ، ودائماً يعود إلى الأدب الغربي وكيف نظر هذا الأدب إلى المرأة ، في الفلسفة والمسرح والشعر ، في الأساطير، وعند شكسبير وإبسن وبرناردشو ومسرحياتهم ، وعند الشاعرين  تشوسر الإكليزي  وبوكاتشيو الإيطالي ، ومافعل كل هؤلاء على صعيد مسيرة التنوير ، وموقع سعاد الصباح بين هؤلاء الفرسان الكبار ، ومعركتها الظافرة لتحرير المرأة العربية من قيود عصر الحريم .
ويكشف  المحور الرابع  عن دواخل سعاد الصباح الوطنية والقومية وعن علاقتها بتاريخنا العربي وموروثنا الإجتماعي والسياسي وكياننا الحضاري وقدرته على الصمود في وجه الأنواء والعواصف القادمة . وهنا لابد من التذكير أن تاريخ كتاب نبيل راغب يرجع إلى عام 1992 وليس إلى أيامنا هذه . ويكشف  المحور عن إحساس سياسي عميق بالخواء لدى الشاعرة ، يشبه ذلك الإحساس الذي فجر قصائد ت.س.إليوت ، ومرد ذلك عند الناقد مأساة الغزو العراقي للكويت ، ووعيها الحاد لمرارة الحدث ، ورغبتها في إيقاظ الغافلين لمواجهة مجاهيل المستقبل المظلم . سياسياً وفكرياً وحضارياً كانت سعاد الصباح تبحث عن خلاص .
في المحور الأخير دراسة عن أهم الجوانب الفنية التي وسمت شعر سعاد الصباح ، وأن خيوط قصيدتها تلتحم معا في نسيج بصري وسمعي وحسي وفكري وانفعالي يهب القارئ متعة جمالية لا متناهية . وأقول أنا ، لو لم يكتب عن سعاد الصباح إلا هذا الكتاب ، لكان فيه الكفاية والغنى والكمال  .

3ـ لغة التماس : مطالعة في شعر سعاد الصباح (175 صفحة)/ محمود حيدر
وهذا الكتاب حلقة في (سلسلة مبدعون عرب ) ويكتب الناشر على غلاف الكتاب الأخير مايلي: ".. مكتبتنا العربية في حاجة إلى قراءات تتميز بروح جديدة متجددة، تعمل على تخطي سابقاتها...إن هذا الكتاب هو حلقة نموذج من تجربتنا الجديدة .." وصدق الناشر فيما كتب .
مذاق الكتاب مختلف عن سابقيه ، في الرؤية وفي اللغة وفي الأسلوب وفي التناول ، وهو أقرب الكتب إلى مزاجي الشخصي في القراءة . وإذن ،يحق لي أن أتباهى كقارئ بهذا الكتاب ، كما منحت الشاعرة الحق بالتباهي بالكتاب السابق ، وسأقول لكم لماذا .
تصادف أن معظم مراجع الكتاب التي يربو عددها على عشرين مرجعاً ، هي بعض ما قرأت منذ مطالع الشباب ، ولذا وجدت في أطروحاته ما يتسق مع مدارات فكري النقدي ، وأرى أن أحد هذه المراجع وهو كتاب سمير الحاج شاهين (لحظة الأبدية : دراسة الزمان في أدب القرن العشرين) من أجمل مائة كتاب قرأتها في حياتي . ولو قيض لي أن أكتب دراسة وافية عن شعر سعاد الصباح لما ترددت في إحالة علاقة شعرها بالزمان إلى هذا المرجع كما  فعل محمود حيدر ، وواضح أن لهذا الكاتب نزوع فلسفي غير قابل للإخفاء ، وبعض فرادته يكمن هنا  .
سأذكر لكم عناوين الفصول الخمسة، وهي خارجة عن المألوف ، لتتأكدوا مما قلت : الأول/ ثالوث اللغة ، الشعر ، المستحيل . الثاني / المجاز: ثنائية المحو، الخلق . الثالث : حركية الزمن في القصيدة . الرابع : القصيدة في زمن الألوهة . الخامس : حب المابعد .
عناوين مفارقة لراهنية الكتابة النقدية حين نشر الكتاب عام 1995، وكما جاء في التمهيد : " دائماً تحملني الرغبة إلى المابعد .هناك حيث يمكث ما لا يُرى ، ولا يُسمع ، ولا يُحس ...في المابعد يمكث الشعر ...قراءة من داخل .. من منطقة تغشاها العتمة ... قراءة تَذوقُ القصيدة ولا تفترسها بالنقد " وكأن محمود حيدر يوافقني على تقويمي لكتاب د. عبد الملك مرتاض . فماذا أضاف هذا الكاتب الحصيف إلى زوادة النقد في الكتابين السابقين ؟
يعترف الكاتب ويبوح : " إنها تجربة في الكلام على الشعر . تجربة وحسب . لا منهج لها . قراءة بلا تقليد . وكتابة كذلك " .هذه هي المعادلة السحرية لكل إبداعات وعوالم وخيالات سعاد الصباح ، كتابة شعرية بلا تقليد ، انبجاس اللغة والمعاني من وجدان إنساني لا يكشف عن تضاريسه ، فتسيل لغة الشعر وتنسكب معانيه في نهر الوجود باحثا عن أبديته . هذا الكلام لي ، ولكنه الكلام الذي يفصح عنه عنوان الكتاب .
هناك جدلية بين كينونتين ، كينونة اللغة وكينونة الأنثى ، والتجربة الإبداعية لسعاد الصباح تحيا  وتتحرك وجوديا في "منطقة  التماس"  ( حيث لا يفصل فاصل بين الرؤية وموضوعها . وحيث يستوي الزمان والمكان والحواس كلها ضمن آلية اختلاج ذاتي . فينبثق النص حالتئذٍ ليس كوصف لهذا الإختلاج ، بل كتجسيم لعالم قائم بذاته وفي ذاته . هذا العالم هو القصيدة ) ص 21 .لم يكتب ناقد أبداً عن "لغة التماس" في الشعر عموماً ، وفي تجربة سعاد الصباح خصوصاً ، وهي لغة تند وترفض التقليد ولا تسير على قواعد مُسبقة في الكتابة ، وتقتضي الأمانة النقدية القول أن قصيدة سعاد الصباح لا تشبه قصائد الشعراء الآخرين ، وذلك لأن لغة التماس هي لغة متحولة ومتفجرة ولا تثبت على حال ، ولا تتبع نمطاً أو أسلوباً ، فمنطقة التماس بين كينونة اللغة وكينونة الأنثى تمنحهما معاً احتمال الصيرورة ، وبالتالي عجائبية وإدهاش مذاق قصيدة سعاد الصباح .
وكي أعطيكم مسحاً سريعاً لروح الكتاب الجامعة ، سأكتفي بذكر الكلمات المفاتيح لفيضان الجهود النقدية التي بذلها محمود حيدر في الفصل الأول من الكتاب للقبض على السمات الجوهرية لإبداع سعاد الصباح : اللغة الحدسية وأسرارها، اللغة المكتفية بذاتها، الملحمة الجمالية ،لغوية الجسد الحسية واستحالاته ،أنسنة القصيدة .
والكلمات المفاتيح  في الفصول الأخرى تنوس وتتحرك في مناطق استكشاف لم يطأها قلم ناقد آخر ، وتؤذن بتدفق عشرات الأسئلة حول الهموم التي حملتها قصائد الشاعرة ، والمسارات التي مشت عليها ، ومعاني الوجود الإنساني العميق ونبضه ، مثل الحب والموت والعدم والسعادة  والحرية والقلب والعقل والمجاز والواقع والزمن والحياة والمحسوس والموهوم والخوف والجرأة والنفس والقلق والحزن ولغز الوجود واستباحة الذاكرة . وفوق هذه المساحة المفاهيمية الواسعة يتحرك قلم وذهن الكاتب ليفتح نوافذ فلسفية تطل منها قصائد سعاد الصباح ، وليعمل على انعتاقها من التأويلات المتسرعة للكتابات السابقة التي تحبسها في قمقم الغزل والحب .
ويؤكد الكاتب على ماجاء في عنوان الكتاب ، وأنه "مطالعة" وليس نقداً ، وقد تكون تجربة استبصار لمسرح  نصوص سعاد الصباح ، واستدراج النصوص للنطق بدفء وحميمية شعرها كمنزل تطمئن إليه قلوب وأحاسيس القراء . وباعتقادي الشخصي نجح الكاتب في استدعاء الأقلام المُغامرة لكسر أقفال كل الأقفاص التي حاولت بعض الكتابات حبس قصيدة الشاعرة وراء قضبانها ، إذ لا يليق بهذه القصيدة الحرة والمتمردة سوى الفضاء الرحب .
4ـ سعاد الصباح .. الشعر والشاعرة (170 صفحة) / فاضل خلف
هنا نحن أمام كاتب
وشاعر وناقد كويتي ، وليس جزائرياً أو مصرياً أو لبنانياً كأولئك الذين سبق لنا تناول كتبهم ، ولذا جاء كتابه وهو يرفل بالحب للكويت التي أنجبت هذه القامة الإبداعية السامقة التي أسمها سعاد الصباح ، ويجول فيه ليرصد مكامن الضوء في أبعادها الفنية واللغوية وقدرتها على التحدي والثبات في مواجهة أحداث عائلية وإنسانية ووطنية لم تكن سهلة ، وكيف عبرت من ضفة الحزن إلى ضفة الشعر الذي هو عندها " وثيقة التأمين ضد شيخوخة الأحداث ، وضد جفاف الشجر وجفاف البشر" ص10 .
يكتب فاضل خلف مقدمة وافية من أربعين صفحة مستعيراً ومعتمداً على دراسات وكتب ، وقراءة أدبية لأكثر من ديوان ، والتركيز على ديوان " فتافيت امرأة" الذي يرى فيه دفقة عالية من الخيال ، وهو عند سعاد خيال غير منفلت ، بل محكوم (بحس مطلق مع إرادة وتحكم عقلي بعملية الإبداع الفني ) ص49 .وتكاد تجليات هذا الخيال الخصب  تنقل شعرها إلى تخوم الأبدية . ويعتمد فاضل خلف كثيراً على جهود دارسين سبقوه وعلى ثقافته الشخصية وفهمه لماهية الشعر ، في سياق استخراج أحكام نقدية قاطعة تجزم بوحدة قصيدتها وتساوق معانيها ، ولا تحلق لغتها في غير فضاء القصيدة ، وأن الشاعرة فنانة من طراز رفيع ، تختزن في داخلها تجارب نفسية حية ، وثقافة عميقة ومعرفة متخصصة ، وهي أشياء جعلت من قصائدها مخاضات إبداعية مركبة حافلة بالتجديد والتأسيس والحداثة ، مفارقة ومناهضة  للوعظ والإرشاد السطحي ، وتأبى سعاد الصباح لقصائدها إلا أن تكون منارة تضيء كل جوانب الحياة ، وأن يكون الشعر عندها نبعاً للإلهام بمعنى الصفاء والإشراق بمعنى  الوميض الخاطف ، والنزوع المشروع نحو الكمال  .
ويكرس الكاتب حوالي ثلاثين صفحة لمختارات متنوعة من ديوان "فتافيت امرأة"، وثلاثين أخرى لدراسة لقصيدة "كويتية" ، ولفصلين مستقلين بنهاية الكتاب عن سمات التمرد الفني على الشكل الشعري القديم عند سعاد الصباح ، وهي ثلاث : تمرد التساؤل وتمرد المواقف وتمرد الرفض ، وموقع هذا التمرد في سياق حركات التمرد في الشعر المعاصر ، وفي هذين الفصلين إضافة ورؤوس موضوعات يمكن لدارسي الشاعرة المستقبليين الإنطلاق منهما نحو آفاق أبعد .
5ـ سعاد الصباح :شاعرة شتائية في الحب والغضب (365 صفحة) / اسماعيل مروة
يتأخر إصدار هذا الكتاب ( عام 2000) عما سبق من كتب ، وفيما اكتفى السابقون بقراءة ديوانين أو ثلاثة ، فإن اسماعيل مروة يفرد دراسته على عشرة دواوين ، وثلاثة كتب من التي تحدثت عنها كانت من بين مراجعه ومصادره (كتب : د. عبد الملك مرتاض، د.نبيل راغب ، أ. فاضل خلف) ، ولذلك جاء هذا الكتاب في أطروحاته وأسئلته ومقارباته أوسع باعاً مما سبق ، وقد غَنِمَ المؤلف الكثير ممن سبقوه واسترشد بهم ، وأضاف إلى ما تراكم من جولات نقدية للآخرين في عوالم سعاد الصباح شيئاً من خبرته الشخصية وذائقته وثقافته ، فجاء الكتاب مستوفياً لتجربة الشاعرة الغنية .
الكاتب اسماعيل مروة الذي يبدو أنه حصل على شهادة الدكتوراة بعد إنجازه لهذا الكتاب ، لذا لم يضع لقبه الأكاديمي على غلاف الكتاب ، لكنه والحق يقال باحث ضليع ومجتهد . وهو في تناوله لتجربة الشاعرة الكبيرة كان كما قال في المقدمة موضوعياً، وكان دافعه للكتابة عنها إعجابه الشديد بشعرها وحبه لهذا الشعر ، وأنه اعتمد على المنهج الوصفي التحليلي ، مترسماً خطى أستاذه نعيم اليافي في منهجه التكاملي ، وعناية هذا المنهج بـ (السياق التاريخي، اللغة ، الموازنات والمقارنات، الأساليب، العناوين والعبارات ، التذوق ، الإستفادة من الدراسات الحديثة ) ، وكما وعد الكاتب في تقديمه ، جاء الكتاب على مستوى الطموح ، لكن وعلى الرغم من هذا الحرص ، فإن الكتاب يخلو من الفهرس ، وكذلك كتاب نجوى حسن الذي سنتناوله لاحقاً ، وهذا أمر نادر وغريب في عالم الكتب ، ونقص منهجي لا مبرر له !
المخطط الهندسي للكتاب ذكي ومشحون بالتشويق : مقدمة ، وستة محاور رئيسة ، ولكل محور عناوين فرعية دالَّة ، وخاتمة . تتناول المحاور الرئيسة هذه الموضوعات : في القضايا الشعرية ، نشيج امرأة عربية ، بين الأنا والأنا ، فواصل من تراب الوطن ، معزوفة الفقد الحزينة ،من خصائص شعر سعاد الصباح . ولا يتسع المقام لذكر عشرات العناوين الفرعية لكل محور والتي تشكل خارطة طريق في تضاريس تجربة سعاد الصباح . وعلى سبيل المثال وفي محور الخصائص نقرأ : التأثر والتأثير، الموازنات ، المفارقة والسخرية، التضخيم والمبالغة ، الإحتفاء بالمكان ، الومضة الشعرية، الدرامية والبناء القصصي ، اللغة اليومية المتداولة .
قلت عن الكتاب أنه خارطة طريق ، وأضيف إنه بوصلة . وكما ارتأيت أن يكون كتاب د.نبيل راغب لصيقاً بالشاعرة ، وأن كتاب محمود حيدر هو الأقرب إلى مزاجي الشخصي ككاتب ، أرى أن هذا الكتاب هو الجامع المانع لكم وللقراء عموماً . لماذا ؟؟
د.اسماعيل مروة مدرس ، ولذا استخدم عقلية المدرس لتقديم المعلومات والآراء ، فهو دائما يلخص قراءته بأفكار محددة تأخذ أرقاماً : أولاً ، ثانياً ، ثالثاً ... وهكذا ولو اقتضى التعداد تجاوز الرقم عشرة (ص 94 ـ 98 / ص182ـ 183 مثلا) . وهذا الأسلوب هو المدرسي والأساس في الكتابة العلمية ، لقدرة القارئ على المتابعة والحفظ .
إذن ، نحن أمام كتاب مفيد ، ويكاد يرسم بأفكاره النقدية ، والمخطط الهندسي لأبوابه وعناوينه صورة شاملة ودقيقة لتجربة سعاد الصباح ، والنماذج التي اختارها من شعرها تتطابق مع الجوانب الفنية أو الفكرية أو النفسية التي أراد الكاتب توصيلها . ورأي الكاتب أن هذه التجربة من أكثر التجارب إشراقاً في أدبنا الحديث ، وفحوى تثمينه وتوصيفه لصاحبة التجربة أنقلها بشكل خاطف حرفياً من الخاتمة والصفحة الأخيرة من الكتاب : ( تدافع عن المرأة. تنتقد المجتمع.صاحبة رؤية سياسية.متفاعلة . متميزة وجريئة .أصيلة في شعرها.حداثية الرؤيا. تجريبية . متفتحة الذهن).
6ـ في ظلال الإبداع: مع الشاعرة سعاد الصباح (240 صفحة) / نجوى حسن
في هذا الكتاب نخرج من مدارات الذكورة الكاتبة إلى مدار الكاتبة الأنثى ، والكاتبة مع عزة مَلَك وأسمهان بدير من الكاتبات اللواتي كتبن عن سعاد الصباح ، وهُنّ ، وخصوصاً القاصّة نجوى حسن ، قرأنَ شعر الحب في دواوين سعاد ونظرتها للمرأة بصورة مختلفة ، إذ عنونت الكاتبة فصلاً في كتابها بـ "الأمومة والرثاء" ، ومفهوم الأمومة ينحدر هنا من سماء أنوثة القلم .

خمسة عناوين ومحاور للكتاب هي ( المرأة،الحب، الثورة والتمرد،
الحس الوطني والقومي،الأمومة ) .لاجديد في الأمر ، فكل من كتب وسيكتب عن تجربة سعاد الصباح سيجد قلمه أسير هذه الدائرة التي رسمتها قصائد الشاعرة ، ويختلف ناقد عن آخر بعمق التناول ونفاذ الرؤية ومستوى القراءة وأسلوب العرض وجمالية النص النقدي .
الشيء اللافت في هذا الكتاب هو ربط الكاتبة بين السمة الرومانسية في شعر سعاد الصباح وبين الثورة ، لأن الرومانسية في الأدب كانت ثورة على التقاليد الكلاسيكية المُحافظة ومحاولة للتجاوز، وأن الرومانسية ليست العاطفة والدموع والأشواق . بذلك تكون المرحلة الرومانسية عند شاعرتنا انعكاساً مبكراً للتمرد والتجديد على صعيدي الشكل والمضمون ، وهي تعبير عن موقف فكري من الحياة والوجود .
الكتاب يقع في أحابيل الإنشاء أحيانا واستعراض المهارات اللغوية لكاتبة قصة ، لكن الأنثى داخلها متعاطفة ومنحازة إلى روح وجوهر الأنوثة التي تكسو إبداعات الشاعرة ، فهي ضد شهريار بوضوح ، ومع شهرزاد المقموعة ، ولذا تبدو معركة سعاد الصباح إيذاناً بولادة طقوس حرية المرأة ، ونهاية للصلف الذكوري المستعلي .
وتختم نجوى حسن قراءاتها ومقارباتها لمسيرة وتجربة شاعرتنا الكبيرة في هذا الكتاب ، والوقفات التحليلية لكل محور من المحاور الخمسة ،  بتطبيق نهجها  النقدي على ديوانين من دواوينها ، هما "قصائد حب" و"امرأة بلا سواحل" . وفي اعتقادي الشخصي ، يبدو لي أن  القارئات سيُعجبن بهذا الكتاب أكثر من غيره ، ففي متنه حوار خفي بين قاصة وشاعرة ، وحوار بين سيدتين يلتئم على ثوابت حق الأنثى بالمطلق في الريادة والوعي والجرأة في بناء وجودها الإنساني الناجز .
خاتمة وشهادة :
في مكتبتي كتب أخرى باللغة الفرنسية  عن سعاد الصباح وتحتاج وحدها إلى محاضرة ،وعندي بحوث صدرت في كتيبات صغيرة ، ومنها : "سعاد الصباح :شاعرة الإنتماء الحميم" لفضل الأمين ، و"سعاد الصباح : رحلة في أعمالها غير الكاملة" لعبد اللطيف الأرناؤوط ، و" دراسة أدبية موجزة لمؤلفات الدكتورة سعاد الصباح" لرياض عبد الله حلاق .
ولكن الجدير بالذكر والتنويه  كتاب برهان بخاري الموسوعي عن شعر سعاد الصباح ، وهو كتاب إحصائي عن مفرداته وعروضه ومعجمه وعدد أبيات القصائد، ومسرد لمطالع القصائد حسب الترتيب الأبجدي . ولا أصنفه ككتاب أدبي أو نقدي ، لأن الصانع الحقيقي للكتاب هو برمجيات الكمبيوتر .
فماذا أنا قائل في الخاتمة ؟؟
نقلتُ لكم لمحات سريعة عن محتوى 1500 صفحة ، لستة كتب ولستة كتاب ، أعمارهم ودرجات تحصيلهم ومناهجهم متباينة ، وهم  من أقطار عربية مختلفة، وأجمعوا على الإشادة بتجربة سعاد الصباح ، وقد أتفق أو أختلف مع أطروحاتهم النقدية ، لكنني أشهد إذا حذونا حذو نقادنا العرب القدامى في تقسيم الشعراء إلى "طبقات" ، أن مكان سعاد الصباح في الطبقة الأولى . وستبقى تجربة حياتها وإبداعها وفكرها ، وفي كل ما أنتجت معرفيا من كتب النثر والدراسات التاريخية ، والتي تناولها قلمي حين صدورها ، تبقى  موضع اعتبار لكل عشاق الشعر والثقافة والفنون . أمدَّ الله في عمرها.
**

الكويت 14 فبراير 2017

سعاد الصباح .. تجليات فقد كبير.. وحب يستعصي على الغياب - بقلم: علي المسعودي *


  


قال الاصمعي: رأيت بالبادية أعرابية لاتتكلم، فقلت: أخرساء هي؟ فقيل لي: لا، ولكن زوجها معجبا بنغمتها فتوفي، فآلت ألا تتكلم بعده أبدا..

وقد اتفق النقاد على تفوق الشاعرات على الشعراء في فن الرثاء بفروعه الصلاص: الندب، التأبين، والعزاء، وقد اعتمدت شهرة بعض الشاعرات على هذا الضرب من القريض تحديدا.. حتى قال مصطفي صادق الرافعي في كتابه "تاريخ الأدب"  (إن الرثاء هو عمود شعر النساء) ، فكان خلود رثاء الأخوة في قصائد الخنساء ومراثيها في شقيقها صخر:
أعيني جودا ولاتجمدا
الا تبكيان لصخر الندى
الا تبكيان الجميل الجريء
الا تبكيان الفتى السيدا
            
وفي رثاء الزوج اشتهرت أبيات جليلة بنت مرة في زوجها القتيل كليب:

يا قتيلا قوض الدهر به ... سقف بيتي جميعا من علِ
خصني قتل كليب بلظى من..  ورائي ولظى من أسفلي
ليس من يبكي ليومين كمن  .. إنما يبكي ليوم ينجلي


لكن نتاج سعاد الصباح الشعري والإنساني والفكري أخذ شكل الوفاء أكثر من شكل الرثاء، فكانت دوما تخاطب حبيبها الغائب كواقع وكوجود وكحضور.. شاخص أمامها بهيئته وبتاريخه، رغم أنه خطاب عاطفي واع ومدرك لحجم الغياب في الوقت ذاته.. وليس من قبيل الاحتجاج على الفقد.. فلم يتضح من كل ماكتبت أنها ترفض هذا الغياب او تحتج عليه، بل إنها تقبل ماحدث بنفس راضية.. لكنها تعيد تشكيل الحضور بشكل آخر، فانجازاتها هي امتداد لحضوره، وأولادها هم استمرار لهيبته وذكرياتها هي اعادة تشكيل واقع فات لواقع سيأتي..

هكذا تعيد سعاد الصباح أحداث الوفاء التي اشتهرت بها المرأة العربية..


ومن ذلك أن  سليمان بن عبدالملك خرج يوما ومعه سليمان بن المهلب ابن ابي صفره من دمشق متنزهين فمرا بالجبانة، فإذا امرأة جالسة على قبر تبكي فرفعت البرقع عن وجهها فكأنها غمامةٌ جلت شمسا، فوقفنا متعجبين ننظر اليها فقال لها ابن المهلب: يا أمة الله هل لك في امير المؤمنين بعلاً؟ فنظرت إليهما ثم نظرت إلى القبر، وقالت:
فإن تسألاني عن هواي فإنه   
بملحود هذا القبر يافتيان
وإني لأستحييه والترب بيننا  
 كما كنت استحييه وهو يراني


قال الاصمعي: فانصرفنا ونحن متعجبين!
والعجب الأكثر هو في صنيع قلب سعاد الصباح.. وانهماراته الصيفية والشتائية ببوح حار للزوج والحبيب والصديق الفقيد..
لأن التلاقي بين (سعاد وعبدالله) كان تلاقي عواطف وتلاقح افكار انبت هذه العلاقة النادرة التي تثير الاعجاب والفخر...
وكم هو رائع ان تغير الشاعرة الصورة النمطية في الشعر التي تقوم جماليات شعر الغزل فيها على التغزل بحبيب ليس هو الزوج.. لتثبت أن الحب للزوج والتغزل به وإكباره في النفس والقلب يعطي بعدا أكثر جمالا وجلالا ونبلا للكلمات وهي تسميه (القديس الذي علمني أبجدية الحب من الألف إلى الياء).. تنشد:

رسمني كقوس قزح
بين الأرض والسماء
وعلمني لغة الشجر
ولغة المطر
ولغة البحر الزرقاء
...              

في عام 1960 ارتبطت الشيخة الصغيرة بالشيخ الكبير.
مثل كل مفاجآت الحب.. قرأ اسمها من بين أسماء الطالبات الفائقات.. فاختارها قلبه على الفور، وقبلت هي فورا بهذا الفارس الذي جاء يخطفها من حضن الأب.. إلى أحضانه كزوج وحبيب ومعلم وأب وصديق.
وقد تعددت أشكال الخطاب الشعري والنثري لسعاد الصباح تجاه عبدالله المبارك
فهو مرة "المعلم" الذي يأخذ قداسة المعلمين الحكماء
وهو مرة "الصديق" الذي يسمع ويستوعب ويناقش
وهو أحيانا الأب الذي يداعب طفلته ويعرف جنون أعاصيرها
وهو
وهو
وهو
ماأكثره وما أوسعه وما أرحبه في قلبها، وفي ذاكرتها، وفي مساحة الجغرافيا والتاريخ عندها

قالت له:

مر تجدني.. أجعل الليل
إذا ما شئت فجرا

والخريف الجهم نيسانا
وألوانا وبشرى
ياحبيبي لا تسل مالون حبي.. أنت أدرى!


وفي سؤال صحفي طرح عليها عمن تقدموا لها يطلبوا يدها للزواج بعد وفاة عبدالله المبارك، أجابت هذه الإجابة الحاسمة والمذهلة:
( لا أحد يجرؤ على ذلك)


تقول:
حين تزوجت ابن عمي وحبيبي ومعلمي الشيخ عبدالله المبارك الصباح كنت في الأول ثانوي، وجدت رجلا مثاليا لايمكنني أن أصفه، وقف الى جانبي منذ اليوم الأول، وتنازل عن امتيازاته التاريخية ومعروف انه رأس العائلة وعمها جميعا. دفعني إلى ملاعب الشمس كي أغرف من الثقافة والعلم ولكي أزداد علما وفكرا،
هذا الرجل العظيم سار معي كل هذا الطريق الطويل، وكان فخوراً أنني أتعلم..
كان هو سندي والكتف الرحيم الذي ارتاح عليه عندما تعصف بي الرياح.
وتضيف: وإذا كنت حققت شيئا في حياتي العملية والأدبية..
فالفضل الاول يعود إلى عبدالله المبارك

وكانت وصيته لأولاده أن يستثمروا أنفسهم بالعلم والفكر وخدمة بلدهم.

تقول..

(كان يقول: إن النفط لوث بعض أفكارنا..
وكثير من قصائدي وكتاباتي هي من وحي أفكاره وتعليقاته)

سعاد الصباح هي حالة انبهار قصوى بالزوج، وقناعة تامة به كشريك حياة، ليس في الأمر ادّعاءا إعلاميا، ولا بهرجة أدبية.. فهذا الإصرار في القول، والاستمرار في التعبير والشعور الجارف بأشكاله وإشكالاته، يثبت ويؤكد ماتذهب إليه.. ويحشد كل أحاسيسها لكي تكون الكلمات معبأة بها.. صدقا لا حد لنقائه وصفائه.


أما قصيدتها (آخر السيوف) فهي أشبه برثائية جيل، وعلامة فارقة في مسيرتها الشعرية من حيث إحساسها ودفقها والسبك والحبك واللفظ والصور المتتابعة المتزاحمة التي تحكي مرارة فـَـقد امرأة شامخة لجبلها الذي جبلت عليه.
..
في القصيدة تداخلت أحاسيس الوطن بأحاسيس الحبيب .. وشجون الأمّة بشؤون الزوجة، فبلغت غاية الإحساس وأقصى الوجع وذروة الألم وسنام الحزن .. ومادلالة آخر السيوف إلا ماتعنيه آخر جولات الفرسان في الحرب، فالسيف الأخير لا يكون بعده إلا إسدال الستارة على كل الجروح..
السيف الأخير سيلتصق باليد التي تحمله معجونا بالدم.. والإصرار ..

ها أنت ترجع مثل سيف متعب
لتنام في قلب الكويت أخيرا
يا أيها النسر المضرج بالأسى
كم كنت في الزمن الرديء صبورا
كسرتك أنباء الكويت ومن ر أى
جبلا بكل شموخه مقهورا
...
صعب على الأحرار أن يستسلموا
قدر الكبير بأن يظل كبيرا

كانت تلك القصيدة الأجمل والأوجع التي كتبتها عقب يوم الفقد الذي لا ينسى: يوم 15 يونيو 1991

...
ومثلما أعادت سيرة الشوق.. أعادت كتابة مسيرة الكفاح الطويل عبر كتابها (صقر الخليج) الذي تناول رحلة رفيق الدرب ومسؤولياته وتضحياته..

...
واستمرارا للوفاء أعدّت كتابها الأهم عن الشيخ مبارك الكبير مؤسس الكويت الحديثة... وكان إلى الإهداء كما نتوقع تماما:
(إلى أسرتي الصغيرة..
إلى روح زوجي الشيخ عبدالله المبارك
إلى أولادي محمد ومبارك وأمنية والشيماء..
إلى أحفادي وحفيداتي
وإلى أسرتي الكبيرة أهل الكويت..
صفحات تحكي عظمة قائد وشموخ شعب..)
وكان الكتاب القيّم الذي يحكي التاريخ وسيحكيه التاريخ.
أما الصفحات الأهم والأمتع فتلك التي حواها كتابها الأميز والأشفّ: (رسائل من الزمن الجميل) في نصوص صدرت للمرة الأولى عام 2006
تلك الرسائل الشعرية ذات النمط الروائي والمطر العاطفي.. بصياغة البوح الحميم.. بروح أديبة عاشقة، كأنها حمامة ترفرف فوق غمامة
الحمامة سعاد.. والغمامة عبدالله
...
تفتتح الكتاب بالانهمار الحار:

(يوم طلبني الشيخ عبدالله المبارك للزواج عام 1959 كان الطلب بمثابة زلزال قوي هز أعماقي، لم أصح منه إلا بعد وقت طويل..
كان بالنسبة لصبية صغيرة لاتزال تلبس المريول المدرسي بطلا من أبطال الروايات التي كنت أقرأها..
وفي مرحلة المراهقة ماأكثر الأبطال الذين حلمنا بهم، وتمنينا أن يخطفونا ذات يوم على حصان أبيض، ويغمرونا بحبهم وحنانهم وكرمهم وفروسيتهم.
وعندما طرق الباب.. عرفت أن روايات الطفولة صارت واقعا)

تكمل:
(لم يخبئني عبدالله المبارك خلف الستائر، ولم يحبسني في قارورة..
وإنما أدخلني إلى مجلسه، وشجعني على المشاركة في كل الحوارات...
ومن أهم أفضال عبدالله المبارك علي أنه صنعني فكريا وثقافيا عندما فتح أمامي الضوء الأخضر لأواصل تعليمي....)

...

تخلص إلى القول: قليلون هم الرجال الذين يضعون نساءهم على أكتافهم.. ويصعدون بهن إلى قمة الجبل في هذا الوطن العربي. وأشهد أن عبدالله المبارك حملني على أهدابه وعلى أكتافه حتى أوصلني وأولادي إلى شاطيء السلامة.
...
علّمها القومية منذ اللحظة التي رفع فيها شعار: الكويت بلاد العرب.. فمنح حق الإقامة لكل عربي على أرض الكويت.
وعلمها الحب منذ أن رعاها بحنان قلبه.
وعلمها الحرية منذ أن منحها حق المشاركة.. فهي أول امرأة تحصل على حقها السياسي غير منقوص.
وقد كتبت إهداء كتابها بهذا الشكل:
(عبدالله المبارك.. زوجي
ومعلمي.. وحبيبي..
وصديق الزمن الجميل)

وكانت أول رسائلها:

(يا أكثر من حبيبي..
إنه الوضوء بمياه صوتك..)

وفي الرسالة رقم 39:
عبدالله يا أحلى الأسماء..
ترحل وتقفل الباب على زمن رائع عشته معك..
من الزمن الكويتي إلى الزمن اللبناني
إلى الزمن المصري.. إلى الزمن السويسري
إلى الزمن الانجليزي
أشعر أنني تعبت وأن الوقود في سفينتي بدأ ينفد...

(عندها تعلن أنها تقفل باب الزمن حيث خبأت أجمل أيام عمرها، وحيث دفنت أثمن كنوزها..)

****
وفي التجربة الأدبية لسعاد الصباح الممتدة التي أقلعت رحلتها الأولى في ديوانها الأول "من عمري" عام 1963 وكانت استراحتها الأخيرة "رسائل من الزمن الجميل" هناك درس أخلاقي في الشعر.. فقد اعتدنا من أهل القصائد شعراء وشاعرات أن يكتبوا عن أحبة لهم لا نعرفهم، بل نجهل أسماءهم وأشكالهم..  فهم ليسوا أزواجا ولا زوجات.. إذ أن تجربة الشعر رسّخت في أذهاننا أن الزوجة لا تصلح أن تكون حبيبة، ولا الزوج يستحق أن تدبج فيه قصائد الغزل.. وذلك ما يشبه الهروب الشعري بالإحساس إلى الآخر البعيد..
وتجارب قليلة صرحت بشخص الحبيب.. القريب.
أشهرها غادة السمان التي نشرت رسائل غسان كنفاني إليها.. وهناك فرق كبير بين رسائل سعاد إلى زوجها وحبيبها عبدالله المبارك،  ورسائل كنفاني إلى غادة ..
فلايخفي على لبيب تلك النرجسية وحب الذات التي دفعت غادة إلى النشر وما تنطوي عليه من خيانات أسرية.. وهو عكس حال سعاد الصباح في رسائل التفاني والاخلاص والعفة والوفاء.. وإنكار الذات.. فهل نصدق أن الحبيب عبدالله المبارك لم يكتب أي رسالة إلى الزوجة الشابة الجميلة الحبيبة.. لكن أم مبارك لا تتاجر بمشاعر الزوج الحبيب..
وهي لم تنشر رسائلها إليه الا بعد وفاته، وذلك منتهى الاخلاص والصدق في مشاعر لاتريد فيها ردة فعل من الطرف الآخر...


لقد بدت غاية الحب وأوجه وبكل وضوحه في كتابها (رسائل من الزمن الجميل) الذي يظهر الحبيب باسمه وكامل أوصافه وبصورته دون تلميح بل بصريح العبارة: هو عبدالله المبارك من الخطوة الأولى إلى المثوى الأخير.. منذ ذلك اليوم الذي طالع اسمها في كشف الفائقات في الصف الأول ثانوي فاختارها، إلى اليوم الذي طالعت وجهه للمرة الأخيرة وهو يذهب إلى جوار ربه..

وعندما  نعقد مقارنة بين رسائل سعاد ورسائل غادة... نجد أن رسائل الكتابين مكتوبة بحبر العشق وأقلام الشوق ومادة الولة.. ومرصوفة على ورق الحب.. لنجمتين لامعتين في سماء الأدب العربي.
كتاب أعدته سعاد الصباح، وآخر أعدته غادة السمان.
وعندما يخضع الكتابين للنقد الفني.. تخرج غادة من مادة الحديث ولاتحضر إلا كملهمة محبوبة أثيرة يلاحقها كاتب عربي شهير، هو ليس زوجها.. بل إنه متزوج من امرأة ويبرر لامرأة أخرى  خيانته.. حيث يبلغ إعجابه مداه في الكاتبة ويتمدد على مدى صفحات الإصدار الذي أثار ضجة كبيرة وهو يقول لها: (بوسعك أن تدخلي إلى التاريخ ورأسك إلى الأمام  كالرمح. أنت جديرة بذلك(

على الجانب الآخر.. تأتي سعاد في مادة الحديث كمحبة وزوجة وفية وعاشقة لرجل هو زوجها.. تبدأ كتابها كأنها تبتهل: (إنه الوضوء بمياه ضوتك) باعتباره  كتاب وله وشوق منها إلى حبيب غاب تحضره بكلماتها ونبضها وقلبها
أما رسائل "غادة".. فما هو إلا كتاب وله وشوق وعذاب من حبيب غاب إليها.. ليؤكد حضورها.. ويرسخ تميّزها..

وتشير الدكتورة نورية الرومي الى ان سعاد الصباح كانت سباقة في عصرها عندما تحدثت عن حبها لزوجها.. (الابداع في مواكب الثقافة العربية ص 48)

وفي دراسته التي حملت عنوان: (صوت الآخر في شعر سعاد الصباح) يتحدث د.تركي المغيض عن الحبيب الذي يدخل في باب "النمذجة" كما صورته سعاد الصباح في شعرها.. تحت عنوان: (الرجل الرمز)
(.. وجاء وصفها لزوجها ليس باعتباره زوجا فقط، وإنما كونه يجسد آمال وتمنيات المرأة في الرجل. ولذلك فقد تجاوزت سعاد الصباح في تقديمها لصورة هذا النموذج الذاتية إلى خلق حالة موضوعية، وانتقلت من الحديث عنه كزوج إلى الحديث عنه كرمز.
والمتتبع لسيرة الشيخ عبدالله المبارك مع الشاعرة يدرك مكانته في حياتها فهو الذي أعطاها الحرية وفتح لها باب الحوار مع موهبتها الشعرية وهو من ركب لها أجنحة تحلق بها في عالم الأدب والشعر، وهو الذي هيأ لها فرصة البلوغ إلى أعلى المراتب العلمية والأكاديمية في حياتها, أضف إلى ذلك ما كان للشيخ من مزايا الرجل الحاكم الذي كان له دور كبير في دولته.
يتابع "المغيض": ومن أكثر القصائد تحديدا لملامح الرجل الزوج و الرمز وهو على قيد الحياة قصيدة "هل نسيتم"؟ صاغتها الشاعرة تحت تأثير ظرف محدد ولذلك نجدها تركز على الجوانب العامة الإنسانية في شخصيته:
كان في معشره صدرا حنونا
وسنى..  يبهر بالحب العيونا
وندى كالغيث في كف السماء
وإباء ألمعي الكبرياء
وله قلب الصغار الأبرياء
كله خير وطهر ووفاء
أنسيتم أنه صقر الخليج..
مُشرق الطلعة .. فواح الأريج

وواضح أن سعاد الصباح هنا – حسب المغيض – لم تركز على عبدالله المبارك كزوج وإنما كرجل رمز ومعلم و وطني مخلص ، وقد تحدثت عنه في كتاباتها وحواراتها كثيرا، فتقول عنه بأنه "رجل حضاري بكل معنى الكلمة، يؤمن بالعلم والمعرفة، وبحق المرأة أن تشق طريقها على قدم المساواة مع الرجل، وإذا وصلت إلى ما وصلت إليه من المعرفة فإن عبدالله المبارك كان وراء مجدي وانتصاراتي".
 (علي المسعودي حمامة السلام – ص 91 ومايليها)
يكمل المغيض: وهي لاتجد سواه في حالات الحزن والأسى عندما فجعت بابنها، فتهرع إليه باحثة عن الحنان والحب لأنها لاتملك - وتؤكد الشاعرة على التملك - إنسانا وحبيبا وأما وأبا وحضنا سواه:
(لاتلمني ياحبيبي إن توالى ألمي
واكتست نضرة أيامي بلون الظلَمِ
ولمن أشكو عذابي؟ وعلى من أرتمي؟
أنا لا أملك إلا أنت من معتصم..
أنت أمي وأبي.. أنت حبيبي توأمي.. (من ديوان إليك ياولدي)

وتخاطب الرجل الرمز الذي جاهد عمره ليعود إلى وطنه، وبعد صبر وتجلد تحققت له العودة.. وتتحول عندها قصيدة الرثاء في الرجل الرمز إلى قصيدة في الوطن وتمجيده، وتستغل الشاعرة موعد وفاة الرجل الرمز الذي تزامن مع تحرير الكويت، مما سمح لها بالعوده الى الحديث عن فارسها ودوره في خدمة الوطن وتأثير الأحداث فيه:
يا أيها النسر المضرج بالأسى
كم كنت في الزمن الرديء صبورا
كسرتك أنباء الكويت ومن رأى
جبلا.. بكل شموخه مقهورا

واستطاعت الشاعره – يقول المغيض – بمهارتها الفنية في وصف ما حل بالكويت بسبب الغزو العراقي الظالم أن تؤثّر في المتلقي من خلال رؤيتها بأن الذين
دمروا الكويت لم يدمروه وحده.. بل دمروا تلك الذاكرة التي تتحرك بحرية على أرض الوطن:
غدروا بهارون الرشيد وأحرقوا
كتب التراث وأعدموا المنصورا
عبثوا بأجساد النساء ودنّسوا
قبر الحسين ودمّروا المنصورا
لم يتركوا في الحقل غصنا أخضرا
أو نخلة مسياء أو عصفورا
يا سيدي إن الشجون كثيرة فاذهب لربك راضيا مبرورا
***
ثم تنتقل الشاعرة إلى الاطار العام لصورة الرجل الرمز
تنتقل سعاد الصباح الى الحديث عن الجوانب
 العائلية والفكرية فتقول على الصعيد العائلي:

(أنت السفينة والمظلة والهوى
يامن غزلت لي الحنان جسورا
غطيتني بالدفء منذ طفولتي
وفرشت دربي أنجما وحريرا)

يكمل المغيض: وتركز سعاد الصباح على مستوى التفكير العالي الذي كان يتمتع به الشيخ وتشير - إلى جانب مهم في هذا الموضوع كامرأة تحمل رسالة الدفاع عن حرية المرأة وحقها في التعبير عن رأيها - إلى أن الراحل مع حق المرأة في حرية الرأي و التعبير عن نفسها بصراحة وشفافية ودون شعور بالخوف أو القمع، فمن شعرها:

(وحميت أحلامي بنخوة فارس
لم تلغ رأيا أو قمعت شعورا
الله يعلم يا أبي ومعلمي
كم كنت إنسانا وكنت أميرا
أابا مبارك يامنارة عمرنا
يادرعنا وكتابنا المأثورا)



وللدكتورة سهام الفريح دراسة حملت عنوان (سعاد الصباح وخروجها من سطوة القبيلة) تتناول مدلولات ألفاظ محددة تتكرر في قصائد الشاعرة مثل: أميري، سيدي، مولاي..
حيث ترددت هذه الألفاظ في خطابها الشعري ، وكانت للفظة "أميري" الغلبة في كثرة تكرارها، وقد صادفنا هذه الالفاظ في ديوانها (أمنية) وهو يمثل المرحلة المبكرة في نتاجاتها الشعرية فلا بد أن تكون بدأتها في مخاطبتها زوجها الشيخ عبدالله وهو من كان يملك السطوة والنفوذ في الحياة العامة في مرحلة من توليه لبعض المسؤوليات في البلاد فاستعانت الشاعرة بالمدلول العام لهذه اللفظة ليعبر عن المدلول الخاص المتصل بحياتها، حيث كان يغدق عليها الزوج من فيض الحب، فهو اميرها حبا له وتعلقا به.
لكن الشاعرة تعلقت بهذه الألفاظ وأكثرت من استخدامها بمدلولاتها الخاصة بمضامين الحب (....)
وتتعالى هذه الألفاظ بوضوح في خطابها الشعري في قصيدتها (ابتهالات):
(.....)
ثم تلحقها بلفظة "أميري" من ديوان  أمنية ص 117:

يرسم لي وجه أميري الذي
 سلمني في وحدتي للسهر


وتلحّ لفظة "أميري" على الشاعرة في قصائد عديدة:
يا أميري.. أنت يا أطهر من طين البشر..

(أمنية 95)

تقول في نفس القصيدة:

يا أميري إن حبي لك طفلٌ في الصغر

وتشير د.سهام الفريح إلى أن لفظة (السيد) وردت في قصيدتها (فتافيت امرأة) سبع مرات، ثم لحقتها بلفظة (سيدي) في مطلع كل مقطع (سيدي، سيدي) وتعود إليها في مقطع آخر وبنفس التكرار (سيدي، سيدي) الديوان/ 37-48

وحين جاءت بلفظتي (سيدي) (وحبيبي) لم تستغن عن هذه اللفظة في قصيدة (وحدي)

يا أميري، أنت يا من كنت للروح شقيق
أنت كنزي من الرحمة والحب الرقبق
ياحبيبي وسيدي وأميري

- أمنية 74

وتستمر الشاعرة في إعلان استسلامها وخشوعها لهذا الحبيب في قصيدة (خطاب):



(مولاي إن جاء هذا الخطاب..)

وتقول:

(مولاي قلبي في انتظار الجواب..)


هكذا تستعرض د.سهام سطوة مفردات الحب الذي تعلن فيه الشاعرة خضوع قلبها الكامل لحبيبها وأميرها وزوجها، وهو الخضوع بمعناه الإيجابي الذي يأخذ شكل الحب الكامل الشامل... (الابداع 226- 229)


فالحب – حسب رأي د.مختار محمود محمد – يغير الكون بقوته السحرية، حيث يحوّل الليل إلى فجر والخريف إلى ربيع، ذي ألوان وبهجة وسعادة، ولذلك نجدها تخاطب هذا الحبيب في قصيدتها "أنت":

لولاك ماغنت طيور الربى
ولا حلا في الليل طول السهر
ولا تهادى النجم في أفقه
ولا زها في الليل ضوء القمر
ولا تناغى نغم حالم
صفا به العيش وطاب السمر


ويخلص د.مختار في دراسة له حملت عنوان (بين الأمنية والحلم) إلى أن أثر هذا الحبيب واضح في شعر سعاد الصباح ( الإبداع - ص 257)

***

وتظل سعاد الصباح حالة خاصة ونادرة من الوفاء.. يمكن استنباطها من تتبع صورها الكثيرة على مدى تاريخها وهي تقف دوما إلى جانب عبدالله المبارك بشخصه، ثم إلى جانب صوره الكبيرة التي تتصدر القصر الأبيض .. بعد رحيله!


****

* أديب قطري يعيش في الكويت

سعاد من اميرة الى مقاتلة بقلم: د. محمد الرميحي




معرفتي بالدكتورة الشيخة سعاد الصباح بدات منذ منتصف العقد السابع من القرن الماضي ، كانت تتردد على المنتديات العربية النشيطة وقتها ، سواء في القاهرة او بيروت ، بيني وبين نفسي كنت اعجب لهذه السيدة التي تركت وثير العيش لتنغمس في اجواء ليست بالضرورة مريحة او مجاملة ، كانت اجواء السيبعينات وما بعدها العربية بالغة التشتت، بين قوى قومية ويسارية و دينية ،و لكن الدكتورة سعاد كانت هناك في صلب النقاشات ، ليس من اجل تمويل و دعم المؤسسات التي تؤمن باهميتها في الثقافة ودعم الفكرة العروبية ،  ولكن وهو المهم حتى تقول رايها في تلك الموضوعات الساخنة التي كان يتجنب الخوض فيها كبار المثقفين  العرب طلبا للسلامة، ووضعت الدكتورة سعاد الكلام موضع الفعل المتميز ، فمولت عددا من مراكز البحث العربية التي وجدت وقتها انها تخدم الفكرة العربية و العروبة التي نشات فيها ومعها . كونها عاشت في كنف رجل سياسي هو المرحوم الشيخ عبدالله المبارك الصباح طيب الله ثراه ،  وتنقلت معه في العواصم العربية والاوربية وظهر اسمها مقرونا باسمه في تاريخ العرب الحديث ، سواء احداث مختلفة وقعت  في مصر او سوريا او لبنان، فعرفت هي عن قرب كيف تُمارس السياسة العربية وابوابها الخلفية  ، كما عرفت عن قرب الاجواء الثقافية المحيطة وذلك التوق العربي لدى النخب العرية و الذي كان يعترف بالاحباط، كما يتشوق الى النهوض سواء  في الحقبة الناصرية او ما بعدها ، في الموضوع الفلسطيني لم تتاخر الدكتورة سعاد عن دعم القضية بكل ما اوتيت من معرفة وكل ما لديها من قدرة مالية، كانت تلك القضية هي قضيتها بامتيار والتي سكبت في شعرها الكثير من الكلمات كما رصدت معانات شعبها في كلماتها المنثورة .
اما معرفتي بها الموثقة والتي عنوت هذه المطالعة بها كونها تحولت من ( اميرة الى مقاتلة) فقد ظهرت ابان الاحتلا  العراقي للكويت عام 1990  ، كُنت قد كُلفت من الادارة الحكومية وقتها ( للتاريخ لا بد ذكر من كلفني،  وهما سمو الشبخ ناصر المحمد ، و سمو الامير الشيخ صباح الاحمد) الاول كان وقتها وزير اعلام بالوكالة،  والثاني كما يعرف الجميع وزيرا  للخارجية ( في الاسابيع الاولى من الاحتلال) من اجل اصدار جريدة باسم الكويت في لندن . كان الوضع كارثيا،  و كانت المؤسسات لا تعمل ، فوجدت من الشيخة سعاد الصباح كل عون و التي شمرت عن ساعد الجد لتخوض معركة وطنها ، فهيئت لي وقتها السكن المناسب،  و كما أمدتني بالكثير من الافكار الصالحة لاصدار جريدة وهي ( صوت الكويت) التي تحتفظ المكتبة العامة اليوم في الكويت بكل اعدادها . وقتها كانت الدكتورة سعاد شعلة لايطفأ نارها في الحركة بين المجاميع الكويتية والعربية من اجل نصرة وطنها، حيث غاب كل شيئ في نظرها الا الوطن . كانت تتصل بمن تعرف من الكتاب والمثقفين العرب، كي يمتشقوا اقلامهم للدفاع عن الكويت الوطن والكويت الرسالة ، قليل منهم استجاب، وكثير منهم سوف ، واكتشفت الدكتورة سعاد ان حديث البحر الهادئ غير الحديث في البحر المتلاطم، وهي التي بذلك كل تلك الجهود في دعم الفكرة العربية، وجدتها عند النخبة هي مصلحة وخيال لا غير . امتشقت القلم وبين فترة واخرى كانت ترسل مقالا او قصيدة تحتضنها صفحات صوت الكويت بحب وفهم ، كانت كلماتها مشجعة و آملة في كويت افضل ، ومن يعود اليوم الى تلك الصحيفة سوف يجد ما كتبته الدكتورة، وقد كان بمثابة ذخيرة حية لاصرار الكويت، شعبا وحكومة على المقاومة و رفض الاحتلال . اما عملها في تلك الايام الصعبة ، فقد كانت تنتقل من تجمع نسائي الى تجمع شبابي الى معالجات فكرية في الساحة العربية، الى اتصالات شعبية لحشد الراى العام من اجل قضية وطنها، كنت المحها بين الجموع  تشجع وتعضد و تدعم وتحل المشكلات التي تعلق بين ابناء الكويت القاطنيين في بريطانيا ، كما كانت فاعلة في اللجنة العليا التي نظمها الشعب الكويتي تحت شعار ( مواطنون من اجل كويت حرة)  واختصارا كانت تعرف ب FREE KUWAIT  ربما تلك التجربة التي خلقت(الاميرة المقاتلة) بقيت في ذهن الدكتور سعاد الصباح، فطورت من عملها الثقافي بانشاء دار سعاد الصباح للنشر ، الذي تشرفت بان تنشر لي كتاب ( الاعدقاء) الذي كان عبارة عن توثيق لمرحلة الغزو العراقي من وجة نظر مراقب ومشارك في الاحداث، واستمرت تلك الدار حتى اليوم تنشر ما لا تنشره الدور الاخرى ،خاصة في توثيق مسيرة الشخصيات الكويتية الوطنية k ولعل اذكر مثالا كتاب استاذنا الدكتور صالح العجيري، الذي احتفت به الدار في مشروع كبير للاحتفاء بالمبدعين الكويتين من رجال ونساء. واصبح من الالزم ان توثق و نحتفل بسيرة هذه المبدعة الوطنية المقاتلة والشجاعة  الشيخة الدكتور سعاد الصباح، فتحية لها ولجهدها الذي لن تنساه الاجيال القادمة .

***

نشرت في مجلة الكويت 2018


سعاد الصباح: عتبة الإهداء.. النص بين التكهّن والاكتشاف بقلم: د. حمد الدوخي


إهداءات عائلية لاتقف عند حدود المودة

عتبة الإهداء.. النص بين التكهّن والاكتشاف

بقلم: د. حمد الدوخي

          إنَّ التحديدَ الأوسعَ لعتبةِ الإهداءِ أنَّها (تقديرٌ من الكاتب للآخر)([1]) وهذا التقدير ينطوي على اعتباراتٍ كثيرةٍ منها ما هو واقعيٌّ/ عاطفيٌّ (للأم/ للأب/ للولد ..الخ) وهذا الإهداء يفيدنا في تكهُّن ما عليه النص من تمجيدٍ واعتزازٍ، أو رثاء للأب أو الأم أو الولد أو رثاء لأحدهم وما إلى ذلك، ومنها ما هو توصيفيٌّ/ فنِّيٌّ يستهدفُ القارئَ بشكل أكثر تعقيداً ويقدِّم له أدواتٍ تساعدُهُ _ في مشغلهِ القرائي _ في استكشاف النص واستبيان أبعاده.
          إن الإهداء عتبة مهمة من عتبات الكتابة التي تخطط للقراءة للوصول إلى موطِن الانفعال في النص الأدبي، فهو سهمٌ دالٌّ على جادة قراءة النص، وما أن تتوافر له قراءة فاحصة تقف في ظلاله حتَّى يبدأ باستدراج وإغواء القارئ وتحفيزهِ على ممارسة توقُّعاته ورسم آفاق انتظاراته للمعنى الذي سيطالعه وهو على جادته هذه، فالإهداء مدخلٌ أوَّليٌّ لكل قراءة لما له من وظيفةٍ تأليفيَّةٍ تعمل على توصيف جانبٍ من عُرف النص([2]) لذا يشغل الإهداء صفحة خاصة به تسمَّى (صفحة الإهداء) وهي الصفحة التي تأتي بعد الصفحة الداخلية للعنوان، ومردُّ ذلك للأهمية التي يحظى بها، ولدورهِ الفاعل في عملية التداول والتواصل، فهو يُحمِّل المُهْدى إليه مسؤوليَّة المُهْدى _ كتاباً أو نصَّاً _([3]) والمسؤوليَّة هنا بمعنى المساهمة في هذا المُهْدى كتاباً أو نصَّاً، أي الحضور في المتن، وهذا مناط بالتخطيط الذي يرتِّبه المؤلِّف بين المُهدى إليه والمحتوى ليكون الإهداء _ بهذا التخطيط _ عتبةَ مشاركةٍ في توطينِ المتنِ والإرشادِ إليه.
          وفي شعر (سعاد الصباح) نجد نوعاً من الإهداءات تسمَّى في العُرف العتباتي بـ(الإهداءات العائلية) ولكنَّها لا تقف عند حدود إعلان المودة لهم، بل تتعدَّى ذلك إلى تقديمِ عينةٍ لمحتوى المُهدى، ففي كل دواوينها التي بين يدينا لا يوجد غيرُ إهداءين فقط، لكنَّهما إهداءان يتمتَّعان بسلطةٍ قويةٍ على المُهدى، أي على النَّص، وسنصطلح على هذين الإهداءين بـ:_
أولاً_ الإهداء المفتوح.
ثانياً_ الإهداء المخصوص.

أولاً_ الإهداء المفتوح:_
          ونقصد به _ هنا _ ذلك الإهداء الذي يُعيِّنُ مُهدىً إليه وينفتح من خلاله على الآخر ليُشكِّل بذلك قرينةً تستوجب الانفتاح هذا، كما في الإهداء الأول في مجموعة (إليك يا ولدي) الذي جاء بخط الشاعرة نفسها، ولكننا هنا سنتناوله بالاشارة، وسنتوقف عنده بدقة أكثر في عتبة الخط كما أشرنا إلى ذلك مسبقاً بفرع (العنونة الإهدائية) .. إن هذا الاهداء والذي يحمله العنوان إلينا هو:_

                                     إليك يا ولدي.
إليك يا ولدي:
إلى من كان رجلاً رغم طفولة العمر
إلى من كان الأنيس، والرفيق، والصديق
في زمن نَدَرَ فيه هؤلاء .
إلى من كان مباركاً، وستظل كذلك ذكراه.
إلى ولدي .. وإلى الأمهات اللواتي شابت
في عيونهنَّ الدموع .. أهدي كلماتي ..
                   سعاد([4])
          فعلى الرغم من أن هذا الإهداء يتمتَّع بمخصوصيَّةٍ عاليةٍ بعنوان المجموعة، وبالخط الشخصي للشاعرة، إلا أنه يعطي في السطر قبل الأخير من هذا الإهداء إشارةً تفتح الإهداء على الآخر المماثِلِ بالحالة التي عليها المُهدِي، مما يرفع عن الإهداء مخصوصيَّته ويفتحه على الآخر، وذلك في قولها:_
إلى ولدي .. والى الأمَّهات اللواتي شابت
في عيونهن الدموع .. أهدي كلماتي
          وعلى عموم هذا الإهداء نلاحظ الحضور الرسمي للعنوان، فالعنوان هو بنية إهدائية (إليك يا ولدي) والإهداء كذلك له البنية ذاتها (إليك يا ولدي)، وهذا يعني حضور العنوان لصالح عتبة الإهداء فهو حاضر هنا بوظيفته الإهدائية التي سبق وأن شخَّصناها بأنها وظيفة إهدائية، أي أن المُراد من العنوان هذا أن يكون مُقدِّماً لمجموعةِ قصائد تتخذُ من المُهدى إليه موضوعاً يتأطَّرُ به بثُّها الشعري ويشتغلُ عليه.
          إن الدعم القصدي واضحٌ في هذه المجموعة الشعرية من قبل الشاعرة، فالعنوان الرئيس _ كما بيَّنَّا _ هو عنوان الإهداء نفسه، فلو أنها أبقت الحال على العنوان فقط لكان البحث عن دلالةِ وأثرِ هذه العنونةِ الإهدائيةِ ضمنَ عتبةِ العنوانِ فقط، ولكن الشاعرة أفردت لهذا الإهداء _ وبالعنوان نفسه _ صفحةً خاصةً بهِ، وهي الصفحة الأولى بعد الصفحة الداخلية للعنوان، ذلك لأن هذه الصفحة هي المكان المخصَّص الذي يتموضع به الإهداء([5]).
          وفي هذا الإهداء نجدُنا أمام تعدادٍ لمواصفات المُهدى إليه فهو (ولدي/ رجلاً/ الأنيس/ الرفيق/ الصديق/ مبارك/ ولدي ..) وهذا التسلسل من المواصفات يؤدي الشطرَ الأولَ _ هنا _ من دور الإهداء العائلي، وهو إعلان المودة وتبيان القَدْرِ والمعزَّة من خلال هذه المواصفات المذكورة للمُهْدى إليه، وهذا هو الاعتبارُ العاطفيُّ/ الواقعيُّ للإهداء.
          أما الشطر الثاني من دور الإهداء فيكمن في مدى تدخُّل هذه المواصفات في تزكية النص وتقديمه للقارئ، وهذا هو الاعتبار التوصيفيُّ/ الفنيُّ الذي نلاحظه في قصيدتها (موعدٌ في الجنة) إذ تجتمع هذه المواصفات لتشارك في تشييد المتن الشعري لهذه القصيدة، وذلك بقولها:_
أيا دنيا من الآلام أسري في دياجيها
أكابدها .. ولا أدري متى أو أين أُلقيها؟
وكم أجهدت إيماني وصبري في تحدِّيها
فلم أجن سوى يأسي من الدنيا وما فيها ..
مبارك كان لي دنيا من الحبِّ أناجيها
وآمالاً أعيش بها ، وأحلاماً أغنِّيها([6])

          هكذا نرى (مبارك) الإهداء يتدخَّل في تشكيل (مبارك) القصيدة، ويقدِّمه ليكون عنصراً أساساً في البنية المركزية، أي الموضوع الذي تتأطر به الكتابة في هذه القصيدة، إذ نراه يتقدَّم في القصيدة بالصورة ذاتها التي قُدِّم فيها في الإهداء، ففي الوضعَيْن يجيء مقترناً بالفعل (كان) الدَّالِّ على الماضي، ففي الإهداء هو: (إلى من كان رجلاً/ إلى من كان مباركاً ..)، وفي القصيدة هو: (مبارك كان لي ..)، وبهذا يكون الإهداء قد منح النصَّ صيغة المشاركة التي عليها عنصره الأساس _ المُهدى إليه (مبارك) _ وهذا هو تدخُّل الإهداء ومشاركته في صناعة النص، أما مواصفات المُهدى إليه التي وردت في الإهداء، فظلالها ظاهرةٌ في المتن، فالمُهْدى إليه في الإهداء (ولدي/ رجلاً/ الأنيس/ الرفيق/ الصديق/ مبارك/ ولدي ..) وهو في المتن (مبارك، دنيا من الآمال، والأحلام ..الخ) وهذه المواصفات كلها تتشابك في الاشتغال _ إهداءً ومتناً _ لتكوِّنَ صورةً كليةً للمُهدى إليه وفاعليتهِ في التصوير والأداء.


ثانياً_ الإهداء المخصوص:_

          لقد اصْطلحنا عليه بـ(الإهداء المخصوص) لأننا نقصد به الإهداء الذي يُعيِّنُ مُهدىً إليه ويختصُّ به دون أن ينفتح من خلاله على الآخر.
          وهذا الإهداء موجود بصنعةٍ ودرايةٍ في مجموعتها (والورود .. تعرف الغضب)، وهو بهذه المجموعة إهداءٌ مخصوصٌ بزوجها (عبد الله المبارك) وذلك في القصائد الخمس الأولى من المجموعة مما يدل على الأولوية التي يحتلُّها المُهدى إليه لديها، ومما يرفع نسبة هذه الأولوية هو المكان الذي احتلَّته هذه الإهداءات الخمسة، فكلُّ إهداء يتقدَّم القصيدةَ المهداةَ ويقع بين العنوان والقصيدة، وفي هذا الموقع إشارة أن الإهداء يتعامل مع كل قصيدة ويقوم بالربط بينها وبين عنوانها ليُكمِّل بذلك عُدة الكتابة والدلالة .. وهنا نقدِّم عنوان كلَّ قصيدةٍ والإهداء المختص بها:_
القصيدة
الإهداء
         أ‌-        أعرف رجلاً

      ب‌-      تحت المطر الرمادي

      ت‌-      زوجي المعلم.. وأنا التلميذة

      ث‌-      ليلة مع رسائلي إليك

       ج‌-       نشرة غير سياسية للأخبار
إلى عبد الله المبارك زوجي، ومعلمي وصديق العمر الجميل .. في يوم ذكراه
إلى عبد الله المبارك زوجي وصديق العمر الجميل  في يوم ذكراه
إلى رفيق البسمة والدمعة إلى صديق سنوات العمر الجميل إلى أبي الروحي إلى روح زوجي عبدالله مبارك الصباح في ذكراه التاسعة
عبد الله المبارك زوجي، ومعلمي وحبيبي وصديق الزمن الجميل ..
إلى روح زوجي، وصديقي، وحبيبي عبدالله مبارك الصباح، في ذكرى ميلاده([7])
          وهنا نلاحظ أن هذه الإهداءات لم تتنوَّعْ، فكلُّها تنتمي لمضمونٍ واحدٍ، ولكنها تفيد _ بانتمائها لهذا المضمون _ التأكيدَ على حميمية الإحساس بهذا (المخصوص) بالإهداء.
          ونأخذ الإهداء الثالث أنموذجاً كونه جامعاً للمشترك اللفظي والدلالي في هذه الإهداءات ويصلح أن يكون أنموذجاً ممثلاً لمجموعة الإهداءات هذه، فهو ينقل لنا صورة المخصوص _ المُهدى إليه _ ويقدِّم ارتباطاً واعياً مع النص الذي اخْتصَّ به .. ونلاحظ أن قصيدة هذا الإهداء وهي (زوجي المعلم .. وأنا التلميذة) تجمع بعنوانها الإحالات التي تتضمَّنها هذه الإهداءات التي تدور كلُّها حول قيمة المُهدى إليه كمعلم، وهذا جانبٌ فنِّيٌّ في قيمته .. وزوج وصديق، وهذا جانبٌ عاطفيٌّ في القيمة نفسها .. وامتداد المعلم في النص يتجلى في قولها:_
لك الشكر ... يا سيدي
فمنك تعلَّمت كيف اثقِّف ذوقي ..
ومنك تعلَّمت كيف أثقِّف عقلي ...
وكيف يكون كلامي على مستواكْ
وشكلي على مستواكْ.
وكيف، إذا ما ذهبنا معاً للعشاءْ
أكون، حبيبي، على مستواكْ
وكيف أكون أمام الرجال أميرةْ ...
وبين النساء أميرةْ!!.. ([8])
          وفي قولها هذا نرى امتداد المعلم منتشراً في أدق التفاصيل التي يخبرنا بها كيان النص، فهو الذي يثقِّف الذوق، والعقل، والكلام، والشكل، لكي يتمكَّن هذا المثقَّف من أن يقدِّم ما هو على المستوى المطلوب منه .. وهنا أردنا أن نقول أن التثقيف الذي سبق وأن قدَّمه المُهدى إليه قد ظهر في النص، وهذا ما قصدنا به أن المُهدى إليه مسؤول عن النص، وأوضحنا أن المسؤوليَّة هنا تكون بمعنى المساهمة في إنتاج النص، وهذه المساهمة هي القيمة الفنِّيَّة للإهداء وهي جليَّةٌ في المتن الذي أوردناه.
          أما القيمة العاطفيَّة التي يقدِّمها الإهداء من خلال المُهدى إليه إلى النص، فإنها بارزة في قولها:_
أحبُّك ...
حتَّى غدوتُ من الحبِّ ...
نسختَك الثانيةْ ..
بكلِّ حضورك ..
كلِّ جموحك ..
كل طفولتك الصافيةْ
وكل عواطفك العاتيةْ
أيا سيَّد الحبِّ ..
ليس هنالك بين الرجال سواكْ ..
وليس هنالك شمس تضيء
وبحر يفيضُ
وطيرٌ يطيرُ
بغير هواك([9])
          وهكذا نرى أن غنائية النص عاليةُ الشفافيَّة تُباشر ببناء علوِّها هذا منذ المطلع (أحبُّك) حتَّى تصل إلى تشخيصه وتصير (نسخة ثانية) للمحبوب؛ وهذا اجتهادٌ تقدِّمه هذه الشفافية من أجل توفير أجواء تتلاءم مع هذا الانثيال من الرثاء النوعي، إذ نرى أن ملكوت الشاعرة وقفٌ للمُهدى إليه، بدلالة أنَّ هذا الملكوت معطَّلٌ بغيره إذ (لا شمس تضيء، ولا بحر يفيض، ولا طيرٌ يطير).
          إن الإهداء يقدِّم لنا عينةً لابد أن نجد أنموذجها في النص، والعيِّنةُ ناجحةٌ في شعر (سعاد) ولا تعاني من اضطراب في ميثاق التواصل بين العينة والأنموذج بدلالة هذه الملامح الواضحة للأنموذج/ العيِّنة والتي تمَّ تشخيصُها في ضوء عيِّنات الإهداء، فهذا المُهدى إليه (المخصوص) بكامل حضوره يتحرَّكُ في النص ويُحرِّكُهُ ليهبَهُ ديناميَّتهُ التي تتكفَّل ببقائهِ صالحاً للقراءةِ والدَّرسِ والتأويلِ.




[1] - عتبات / 93.
[2] - ينظر: عتبات الكتابة: البنية والدلالة: عبد الفتاح الحجمري، منشورات الرابطة، الدار البيضاء 1996/17 و 30.
[3] - عتبات / 100.
[4] - إليك يا ولدي / صفحة الإهداء.
[5] - عتبات / 95.
[6] - إليك يا ولدي / 12 _ 13.
[7] - والورود .. تعرف الغضب / 15 و25 و39 و53 و63.
[8] - والورود .. تعرف الغضب / 41.
[9] - والورود .. تعرف الغضب / 46 _ 47.