الاثنين، 17 سبتمبر 2018

ثيمة الانتماء في قصيدة (السمفونيّة الرّماديّة)* للشاعرة سعاد الصباح - د. عواد الحياوي


 ثيمة الانتماء في قصيدة(السمفونيّة الرّماديّة)*

د. عواد الحياوي


يا أحبابي:
كان بوُدّي أن أُسْمِعَكُمْ
هذي الليلةَ، شيئًا من أشعار الحُبّْ
فالمرأةُ في كلِّ الأعمارِ ،
ومن كلِّ الأجناسِ ،
ومن كلِّ الألوانِ
تدوخُ أمامَ كلامِ الحُبّْ
كان بوُدّي أن أسرقَكُمْ بِضْعَ ثوانٍ
من مملكةِ الرَمْلِ، إلى مملكةِ العُشْبْ
يا أحبابي:
كان بودّي أن أُسْمِعَكُمْ
شيئاً من موسيقا القلبْ
لكنَّا في عصرٍ عربيٍّ
فيهِ توقّفَ نَبْضُ القلبْ ... 
2
يا أحبابي:
كيف بوُسْعي ؟
أن أتجاهلَ هذا الوطَنَ الواقعَ فيِ أنيابِ
الرُعْبْ ؟
أن أتجاوزَ هذا الإفلاسَ الروحيَّ
وهذا الإحباطَ القوميَّ
وهذا القَحْطَ .. وهذا الجَدْبْ.
3
يا أحبابي:
كان بودّي أن أُدخِلَكُمْ زَمَنَ الشّعِرْ
لكَّن العالمَ – واأسَفَاه – تَحوَّلَ وحشًا مجنونًا
يَفْتَرِسُ الشّعرْ ..
يا أحبابي:
أرجو أن أتعلَّمَ منكمْ
كيف يُغنّي للحرية مَنْ هُوَ في أعماقِ البئرْ
أرجو أن أتعلّم منكمْ
كيف الوردةُ تنمُو من أَشْجَارِ القهرْ
أرجو أن أتعلّم منكمْ
كيف يقول الشاعرُ شِعْرًا
وهوَ يُقلَّبُ مثلَ الفَرْخَةِ فوقَ الجمرة..
4
لا هذا عصرُ الشِعْرِ ، ولا عصرُ الشُعَراءْ
هل يَنْبُتُ قمحٌ من جَسَد الفقراءْ ؟
هل يَنْبُتُ وردٌ من مِشْنَقَةٍ ؟
أم هل تَطْلَعُ من أحداقِ الموتى أزهارٌ حمراءْ؟
هل تَطْلَعُ من تاريخ القَتلِ قصيدةُ شعرٍ
أم هل تخرُجُ من ذاكرةِ المَعْدنِ يوماً قطرةُ ماءْ
تتشابهُ كالُرّزِ الصينيّ .. تقاطيعُ القَتَلَة
مقتولٌ يبكي مقتولًا
جُمجُمةٌ تَرْثي جُمْجُمةً
وحذاءٌ يُدفَنُ قُرْبَ حذاءْ
لا أحدٌ يعرِفُ شيئًا عن قبر الحلاّجِ
فنِصْفُ القَتلى في تاريخِ الفِكْرِ ،
بلا أسماءْ ...

العدول في العنوان:
    لا يخلو عنوان هذا النص من عدول غريب، تمثّل في اجتماع حاستين مختلفتين في مركّب نعتي، جاء المنعوت فيه السمفونيّة وهو مؤلَّف موسيقي يستدعي حاسّة السمع، وجاء النعت لونًا يستدعي حاسة البصر. فنعتت الباثّة ما يُسمع بما يُرى، واستدعى السامع قبل القارئ، وعدل عن الأصل، وهو أن يوافق النعت طبيعة المنعوت، من حيث إدراك الحواس لأنّ من وظائف النعت تقريب صورة المنعوت من المتلقي، وهذا التّداخل المُتعمَّد بين الحاستين يجعل النصّ رسالة صوتيّة منغّمة تقوم على الإنشاد الجماعي ويصطبغ هذا الإنشاد بلون وسط بين الأبيض والأسود(الرّمادية) ولعلّ تأرجح هذا اللون بين لونين أصليين يضفي على إيقاع هذه السمفونيّة شكلًا من أشكال الاضطراب، وغياب الصفاء والوضوح، أو هو يُغيِّب عن هذه السمفونيّة الألوان التي من شأنها أن تجعل المتلقي منشرحًا لا حزينًا. وهو كذلك عدول من ناحيتين عن البياض الصرف وعن السواد الصرف، وكأنّه منزلة بين منزلتين.
 لذلك لا يبدو أنّ العنوان يستدعي المتلقي إلى إيقاع مريح أو مفرح،
ولعلّ المتأمّل في بنية هذا النصّ يتبيّن أنّه قام على بنية النص الحجاجي فتضمّن:
* - أطروحة مدعومة.
* - أطروحة مدحوضة.
* - سيرورة حجاجيّة.
* - الاستنتاج.
 * الأطروحة المدعومة:
    جاءت هذه الأطروحة في شكل رسالة مُوجّهة من الباثّة المحاججة إلى المتلقي الأحباب. ويجدر بنا في البداية التوقّف عند هويّة المتلقي الذي ضيّقت الباثّة من دائرته، فعدلت به من المتلقي المُطلَق الذي لا تربطه أيّ صلة بالباثّة إلى المتلقي المحدَّد الذي فاز بمنزلة أثيرة وهي منزلة الحبيب، على الرغم من صيغة الجمع التي طبعت هذا المتلقي فإنّه مع ذلك يبقى محدَّدًا وضيّقًا لا يخرج عن دائرة الأحباب التي مهما اتّسعت فإنّها تظلّ محدودة لا تدرك منزلة المتلقي المطلق اللاّمحدود، إذن فالنّصّ منذ البداية ينأى عن طابعه الإنساني المطلق، وقد ارتبطت الرّسالة الواردة في الأطروحة المدعومة بظرف زمانيّ محدّد(هذي الليلة)، ولا يُخفي هذا الإطار بُعدين مُهمّين:
الأوّل: حميميّة الخطاب باعتبار ما تفرضه طبيعة المسامرة من تقارب بين الباثّة والمتلقي.
الثّاني: أنّ هذا الظّرف الزّماني محدّد على نحو يشي بأنّ مضمون
الخطاب هو مضمون ظرفيّ قد لا يكون صالحا لظرف آخر سواه،
هذا بالإضافة إلى قرينة أخرى تؤكّد حميميّة الخطاب ولاتُخفي قرب المتلقي، وهي قناة التواصل التي اختارتها الباثّة وهذه القناة هي قناة السّمع. وهي قناة مثلما افترضت قرب المتلقي، فإنّها تفترض جدليّا قرب الباثّة التي تأرجحت رغبتها بين الموجود والمنشود، وطبيعة البناء اللغوي الذي اختارته الباثّة لا تخفي نوعًا طريفًا من العدول يتجاوز الحدود اللغويّة والفنيّة إلى عدول قهريّ أسّسته قوّة خارقة تتجاوز المُراد إلى المفروض.
   ناهيك أنّ الباثّة أقامت الأطروحة المدعومة على كثافة الجمل الاسميّة المُصدَّرة بالناسخ الفعلي(كان)، والذي يفيد معنى المُضِيّ. وقد أسهم العدول التركيبي بتقديم خبر الناسخ(بودّي) في تشويق المتلقي وإثارته للتّساؤل عن أمرين مهمّين:
الأوّل: ماذا كان متوَقّعًا سماعه؟
الثّاني: ما العائق أو العوائق التي سبّبت هذا المنع؟ وقد قامت الأطروحة المدعومة على ثلاث رغبات منشودة عدلت عنها الباثّة قهرًا.
وهذه الرّغبات هي:
 أن أُسمِعَكم شيئا من أشعار الحبّ
 أن أسرقكم بضع ثوان
 من مملكة الرّمل، إلى مملكة العُشب
 أن أسمعكم شيئا من موسيقا القلب
    وقد عمدت الباثّة، المُحاجّجة إلى تعليل رغبتها الأولى الواردة في أطروحتها بقولها:
فالمرأة في كلّ الأعمار
ومن كلّ الأجناس
ومن كلّ الألوان
تدوخ أمام كلام الحبّ.
    ومهما كان مضمون التعليل فإنّ رغبة الباثّة قد عدلت عن الفعل الاعتباطيّ اللاّواعي إلى فعل يرشح قصدًا ووعيًا، لأنّ العزم على الإقناع يفترض جدلًا الحجّة والدليل، وأن تكون الحجّة إقناعيّة أو تأثيريّة فالأمر سيّان إذا كان الهدف التّعليل، والحجّة التي اختارتها الباثّة جمعت في رأينا بين الإقناع والتأثير.
     فأيّ منطق في الكون ينفي تأثير الحبّ في الإنسان؟ وأيّ نفس على الأرض لا تتفاعل مع كلام الحبّ؟ وهذا ما عمدت الباثّة إلى توزيعه على معجم ثلاثيّ، جمع بين العمر والجنس واللون، بل لقد عمدت الباثّة إلى تكرار(كلّ) أمام كلّ كلمة من الكلمات الثّلاث السّابقة.
     ولا يخفى ما في ذلك من دلالة على الشمول والكلّية، ولعلّ هذه الرّغبة الأولى التي أُجبِرت الباثّة على عدم إنجازها قهرًا، يزداد وزنها ثقلًا إذا علمنا بطبيعة الوعاء الذي كان من المُفترض أن يضمّها وهو الشِّعر، فالمفعول به الثّاني المتعلّق بالفعل(أسمع) والذي ورد مركّبًا نعتيًا شيئًا من أشعار الحبّ يحدّد طبيعة الخطاب الذي عُدِل عنه.
     وهو الخطاب الشعري ثمّ هو إضافة إلى ذلك قد حدّد نوع هذا الشعر اعتمادًا على المركّب الإضافي، أشعار الحبّ، فالخطاب المنشود إذن هو خطاب يرشح حبًّا ووسيلة التعبير في هذا الخطاب هي الشعر، وبناء على ذلك تكون طبيعة الخطاب المعدول عنه أو الخطاب المُتمَنَّى هو خطاب شعريّ أعلن عن وظيفة المحاجّ فالمحاجّ إذن شاعر.
أمّا الرغبة الثانية التي تضمّنتها هذه الأطروحة المدعومة فهي:
كان بودّي أن أسرقكم بضع ثوان
من مملكة الرّمل إلى مملكة العُشب
   وهذه الرغبة الثانية تأسّست على فعل السّرقة، الذي ارتبط بظرف زمانيّ(بضع ثوان)، كما ارتبط الفعل أيضًا بظرفين مكانيين سُبِق الأوّل بحرف جرّ أفاد ابتداء الغاية المكانيّة(من)، وسُبِق الثّاني بحرف جرّ أفاد انتهاء الغاية المكانيّة(إلى)، وإن تشابه المكانان في المضاف تركيبًا، فإنّهما اختلفا من حيث المضاف إليه.
    فكلا المكانين مملكة، ولكنّ المكان الأوّل كان الرّمل، والمكان الثاني كان(العشب) ولا يخفى ما في فعل السّرقة من عدول عن المعنى المعجمي المألوف، فالسرقة في أصل معناها شكل من أشكال الحرمان المُتعمَّد موضوعه شيء يمتلكه من يقع عليه فعل السّرقة، ويطمع فيه السّارق لتحقيق منفعة خاصّة به، ولاتتحقّق بموجب فعل السّرقة فائدة لضحيّة السّرقة، بل إنّ الفائدة كلّ الفائدة تتحقّق للسارق، وإذا كان الرّمل مؤشّرًا طبيعيًّا على القحل والجفاف واللاّحياة، فإنّ العشب مؤشّر واضح على الخصب والنّماء والحياة. وهكذا يصبح فعل السّرقة المرتبط بحيّز زمانيّ قصير فعلًا لصالح الطّرف الذي وقعت عليه السّرقة. وهنا يتحقّق عدول غريب وطريف في معنى السرقة كما يتحقّق معنى أكثر طرافة في طبيعة ما كانت الباثّة تودّ سرقته.
    ولعلّ العلاقة الموجودة تركيبيًّا بين المصدر المؤول الأوّل(أن أُسمعكم)، والمصدر المؤوّل الثاني(أن أسرقكم) واشتراك الفعلين في المفعول به الأوّل نفسه، وهو ضمير المخاطب الجمع يبيّن الصلة الموجودة بين طبيعة الخطاب وهو الشعر وطبيعة ما كان يودّ تحقيقه وهو نقل المخاطَب من(مملكة الرّمل إلى مملكة العشب).
  ولعلّ كلّ ذلك يجعل من الخطاب الشّعري عامّة وأشعار الحبّ خاصّة مركبة تعدل دلالة عن المفهوم الحسّي لطبيعة المركبة إلى المفهوم المعنويّ. وهذه المركبة تمتلك قدرة تتحدّى الواقع الموجود القاحل لتؤسّس عالمًا منشودًا قوامه الخصب والحياة.
    وهنا تتجلّى ملامح الواقع الذي يودّ المحاجّ تأسيسه بناء على تشخيصه لواقع موجود، وهذا الصّراع الذي تعيشه الباثّة بين ما كان متوقَّعا أن يكون وبين ماهو كائن يُنبئ بموقف غير خفيّ من هذا الواقع الموجود، بل إنّ دائرة ما كانت تنشده الباثّة تتّسع أكثر من خلال الرّغبة الثّالثة:
كان بودّي أن أُسمعكم
شيئًا من موسيقا القلب
      في هذه الرّغبة الثّالثة تكرّر الفعل الأوّل(أسمعكم)، ليتعدّى إلى مفعول به ثان(شيئا من موسيقا القلب) بل إنّ المفعول الثاني كرّر المنعوت أيضًا(شيئًا) ولكنّه عدل عن النعت الأوّل ليصبح(من موسيقا القلب) عوضًا عن(من أشعار الحبّ). ومثلما حدّدت الباثّة طبيعة الأشعار في الرغبة الأولى حدّد طبيعة الموسيقا في الرغبة الثالثة. وعلاقة الإضافة هذه(موسيقا القلب) لا تخفي عدولًا واضحًا عن مفهموم الموسيقا، إذ عادة ما تكون الآلة المستعملة لأيّ نوع من أنواع الموسيقا آلة لا تصدر أيّ نغم، إلاّ إذا كانت تحت تصرّف الإنسان وإرادته. فالعازف هو المتحكّم في آلته وليس العكس.
    إلاّ أنّ مصدر الموسيقا التي كانت الباثّة تودّ إسماعها لأحبابها هي موسيقا القلب. والقلب وإن كان له نوع من الإيقاع في نبضه، فإنّه إيقاع مُتحكِّم، وليس مصدر إيقاع متحكَّم فيه، ثمّ إنّ القلب بموسيقاه يعلن في كلّ نغمة يعزفها عن استمرار الحياة. وتوقّف إيقاعه يعني الموت. وبناء على ذلك تكون الموسيقا التي كانت الباثّة تتمنّى إسماعها أحبابه هي موسيقا الحياة التي تعلن جدليًّا عن واقع يغمره السّكون والموت.
هكذا كانت الأطروحة المدعومة أطروحة ترشح حياة. هذه الحياة التي وزّعتها الباثّة على ثلاثة مؤشّرات:
شعر الحبّ
مملكة العشب
موسيقا القلب.
     وبينها صلات تجعلها واحدة، وتجعل العدول من الأولى إلى الثانية فالثالثة هي مجرد ذكر صفات أو وظائف أو مترادفات بلاغية نفسية.
*الأطروحة المدحوضة:
     وُجِهت الأطروحة المدعومة بمؤشّر لغويّ عبّر عن وجود عائق مانع صادّ(لكنّ)، فهذا النّاسخ الحرفي المعبّر عن معنى الاستدراك لغويًّا عدل عن بعده اللغويّ التّركيبي ليعلن عن خيبة واجهت إرادة الباثّة ورغبتها. ولكنّ العدول امتدّ إلى ما هو أعمق من ذلك، ليمسّ الضمير الذي كانت الباثّة استعملته منذ انطلاق الخطاب. حيث كان الضمير ضمير المتكلِّم المفرد(بودّي، أسمعكم، أسرقكم، أسمعكم) فأصبح ضمير المتكلّم الجمع(لكنّا). فالعائق المانع من تحقيق الأطروحة المدعومة والمُعلِن عن الأطروحة المدحوضة ليس متّصلًا بذات الباثّة، ولايعيقها وحدها، بل هو عائق متّصل بالذّات الجماعيّة الجامعة بين الباثّة والمتلقي بين(أنا وأنتم)، وبناء على ذلك كانت الرّغبة فرديّة ذاتيّة وكان العائق جماعيًّا.
  ويخبرنا خبر الناسخ عن طبيعة العائق المانع القاهر للباثّة حتّى لا يحقّق ما ودّت تحقيقه. ويأتي هذا الخبر مركّبًا بالجرّ(في عصر عربيّ فيه توقّف نبض القلب). فطبيعة العائق حضاريّة عربيّة.
   لأنّ الباثّة رأت أنّه عصر فيه توقّف نبض القلب(وأقرب المعاني لتوقّف نبض القلب هو معنى الموت إذ لا حياة دون نبض.
إذًا فالأطروحة المدحوضة أطروحة تعلن موت العصر العربيّ أو موت الواقع العربيّ. وبذلك لا مكان لأشعار الحبّ ولا لمملكة العشب ولا لموسيقا القلب في عصر كهذا.
  هناك تقبل واضح بين المراد وطبيعة العصر الذي ظهر فيه. وهكذا توجّه الباثة إصبع الاتهام إلى واقع عصره، فهو واقع توقّف فيه نبض القلب، وهو عصر ميّت أو أوشك على الموت، إذا تأكّد وقوف القلب بعد توقّفه، لأنّ طبيعة الفعل توقّف تحيل على الوقوف المرتبط بظرف زمانيّ محدّد معلومًا كان أو غير معلوم.
*السّيرورة الحجاجيّة:
     قامت سيرورة الحجاج في هذا النصّ ومنذ بدايتها على العدول من الخبر إلى الإنشاء ومن التّقرير إلى الاستفهام. وهذا العدول حوّل إيقاع النصّ من التعبير عن الخيبة إلى التعبيرعن الحيرة. ففي حين تكرّر التركيب(كان بودّي ...) المعبّر عن الخيبة ثلاث مرّات وارتبط في كلّ مرّة برغبة محبَطة نرى اسم الاستفهام(كيف) يتكرّر في بداية السيرورة الحجاجيّة مرّتين أفاد في كلّ مرّة معنى النّفي:
ياأحبابي:
كيف بوسعي
أن أتجاهل هذا الوطن الواقع في أنياب الرّعب؟
كيف بوسعي
أن أتجاوز هذا الإفلاس الرّوحي
وهذا الإحباط القوميّ
وهذا القحط وهذا الجدب؟
   اتصل مضمون الاستفهام في هذا المقطع بقصور قدرة الباثة أمام خصوصيّات هذا العائق الحضاريّ الذي حرمه كما حرم أحبابه من متعة الحبّ والخصب والموسيقا.
    فـهذا الوطن جامع لمؤشّرات تعلن كلّها موتًا أقسى من الموت الحقيقيّ. هو موت يعدل بالواقع من الحياة إلى اللاّحياة. هو موت تشكّل من روافد لا يمكن أن تؤدّي في النهاية إلاّ إلى توقّف نبض القلب. هي روافد لا يمكن أن تترك في نفوس أحباب الباثّة مكانًا يملؤه حبًّا وخصبًا وموسيقا. هكذا اعتمد المحاجّ أولى حججه وهي حجة الواقع. وطبيعة السيرورة الحجاجيّة أشدّ ما تكون إقناعًا عندما تتصل بالواقع. لأنّ الحجج الأخرى قد تتطلّب من المتلقي نصيبًا من الاطلاع. أمّا حجة الواقع، فإنّها حجّة منتشرة أمام كلّ حواسّه وبإمكانه إدراكها مهما كان مستواه الفكري ومهما كانت درجة وعيه. وبهذه الحجّة عدلت الباثّة في حجاجها عن العالم المنشود القائم على الحياة، لينتقل إلى عالم موجود يغلب عليه الموت. ثمّ يتكرّر النّداء مرّة ثالثة في بداية المقطع الثّالث ليعدل عن دلالته من تنبيه المتلقي إلى طلب ما ليصبح النداء محطّة لغويّة تستردّ من خلالها الباثّة أنفاسها، وكأنّها اختنقت بما مرّ عبر حلقه من كلام نشر المرارة في لسانها وأنفاسها حتّى عادت تتحيّل بتكرار أسلوب النّداء عساه يجد من القدرة ما يجعلها قادرة على مواصلة الرّسالة. وبالنداء الثالث تعود الباثّة إلى التعبير عمّا كانت تودّ إنجازه في(هذي الليلة). وكأنّ مرارة واقع القحط والجدب قد استفزّت رغبته في الاستعانة وهمًا بشيء من حلاوة ما كانت تعتزم تقديمه. عساه يستطيع الاستمرار في التواصل مع أحبابه. وهذه المرّة ترتبط الرّغبة بالشعر ثانية وبزمن الشعر تحديدًا حتّى لكأنّ كلمة الزّمن هنا تتعرّى من دلالتها على الوقت. فتعدل عن معناها المعجميّ البسيط لتؤسّس زمنًا آخر تلازم مع الشعر.
   فهل زمن الشعر هو زمن غير الزّمن الذي كانت تعيشه الباثة مع أحبابها؟ وطالما ارتبط زمن الشعر برغبة عند الباثّة قمعها(عصر عربيّ) فالأكيد أنّ الزّمنين متقابلان لاتشابه بينهما، والأكيد أنّ زمن الشعر مرتبط بالحياة على عكس زمن الواقع العربي المرتبط بالموت.
    وهنا تضعنا الباثّة أمام مفارقة عجيبة. إذ لا حضارة عبر التاريخ بلغ فيها الشعر القيمة التي بلغها الشعر في الحضارة العربيّة حتّى سمّي الشعر ديوان العرب، إذ ضمّ جدّهم وهزلهم وحربهم وسلمهم وقوّتهم وحلمهم ومدحهم وهجاءهم وعشقهم وكرههم... حتّى لكأنّ الشعر هو الحياة بكلّ تناقضاتها.
     وهنا يتأكّد العدول بزمن الشعر إلى زمن الحياة. إلاّ أنّ الرّغبة في إدخال الأحباب زمن الشعر|الحياة تواجه مرّة أخرى باستدراك يعلن الخيبة أمام عائق، جاء هذه المرّة حجّة مُماثَلة تدعّم حجّة الواقع التي استعملتها الباثّة في أوّل السيرورة الحجاجيّة، والمماثَلة تعلّقت بتشبيه العالم هذه المرّة بوحش مجنون، ولكنّ هذا الوحش بدا غريبًا عجيبًا. إذ عدلت الوحوش عن افتراس ما تعوّدت عليه إلى افتراس الشّعر. وإذا اتفقنا حول البعد الدّلالي للشّعر وهو الحياة كما ذُكر آنفًا، فإنّ هذا الوحش يفترس الحياة ولم ينحصر العدول عند طبيعة الوحش فقط، بل إنّ العدول شمل أيضًا الواقع الذي كان مرّة العصر العربيّ، ومرّة أخرى الوطن، ومرّة ثالثة القوميّة.
   فهل يعني هذا أنّ أزمة الواقع قد بلغت من الاتساع درجة عمّت العالم بأسره؟ طبعا لا. لأنّ المؤشّرات الحجاجيّة التي استعملتها الباثة في سيرورته الحجاجيّة اتّصلت بمعطيات تؤكّد أنّ العالم المقصود هو العالم العربيّ، وليس هناك مؤشّر أقوى من مؤشّر الشّعر. ويتصاعد أسلوب النّداء وسط المقطع الثّالث في أثناء السيرورة الحجاجيّة(يا أحبابي) مباشرة بعد الإعلان عن الخيبة المسبوقة بالاستدراك. وفي هذه المرّة يتعاضد الرّجاء بالاستفهام إذ تكرّر الباثّة الفعل(أرجو) ثلاث مرّات في مقطع واحد، ليعلن في كلّ مرّة عن الرّجاء نفسه: (أن أتعلّم منكم) وبهذا الرّجاء تقلب الباثّة طبيعة العلاقة بينها و بين المتلقي فبينما كانت الباثّة عازمة على البثّ، أصبحت طامعًة في أن تتحوّل متقبّلًا وأن يصبح من كان مفترضًا أن يكون متقبّلًا باثًّا. إلاّ أنّ رجاء الباثّة توزّع على ثلاثة استفهامات:
كيف يغنّي للحرّيّة من هو في أعماق البئر؟
كيف الوردة تنمو في أشجار القهر؟
كيف يقول الشّاعر شعرًا
وهو يُقلَّب مثل الفرخة فوق الجمر؟
  ومن يتأمّل الدلالة البلاغيّة للاستفهام سرعان ما يتبيّن له أنّه أفاد معنى النّفي، وهو معنى بعيد كلّ البعد عن المعنى الأساسي للاستفهام وهو الاستخبار. لذلك لم تكن رحلة الاستفهام هذه العادلة عن الفائدة الأصليّة إلاّ خدعة فنّيّة، وظّفها المحاجّ ليقد م جملة من الحجج المنطقيّة. إذ ليس من المنطق أن يغنّي للحرّية من هو في أعماق البئر، وليس من المنطق أن تنمو الوردة في أشجار القهر، وليس من المنطق أن يقول الشّاعر شعرًا  وهو يُقلّب مثل الفرخة فوق الجمر.
   وعند وصولنا إلى هذه الصّورة التي تعبّر عن معاناة الشّاعرة التي تُقلَّبت فوق الجمر، تُشعِر بانقطاع نفَسها وجفاف حلقها مرّة أخرى فتستعين بلازمة أسلوب النّداء(يا أحبابي)، وكأنّ النّداء هو الخشبة، التي تُتيح لمن أوشك على الغرق أن يسترق أنفاسًا تبعد عنه شبح الموت. لذلك بادرت الباثّة بالإجابة عمّا طرح من أسئلة فتجيب:
 لاهذا عصر الشعر، ولا عصر الشّعراء
    وهذه المرّة يتكثّف حضور مادّة(ش،ع، ر) فتأتي مصدرا(الشّعر) واسم فاعل في صيغة الجمع(الشّعراء). ومادامت الباثّة قد اعتبرت الشّعر مدخلًا للحياة في بداية النّص فإنّه، بإجابته عن أسئلته قد نفى معنى الحياة عن العصر. وطالما تكثّف معنى النّفي بتكرار(لا) مرّتين، عاد الخطاب بعد الأسلوب الخبري إلى الأسلوب الإنشائي فتكرّر الاستفهام بـ(هــل) خمس مرّات واشتركت جميعها في التعبير عن معنى النّفي من خلال مجموعة من الصّور الطريفة العادلة عن المألوف.
هل يَنْبُتُ قمحٌ من جَسَد الفقراءْ ؟
هل يَنْبُتُ وردٌ من مِشْنَقَةٍ ؟
أم هل تَطْلَعُ من أحداقِ الموتى أزهارٌ حمراءْ؟
هل تَطْلَعُ من تاريخ القَتلِ قصيدةُ شعرٍ ؟
أم هل تخرُجُ من ذاكرةِ المَعْدنِ يوماً قطرةُ ماءْ ؟
   إنّ الباثّة قد اختارت هذه العناصر بعناية كبيرة لتؤكّد مرّة أخرى بحجّة مُماثَلة استحالة العثور على مؤشّرات الحياة في الواقع. فواقع هذه الأمّة شبيه بـ(جسد الفقراء والمشنقة وأحداق الموتى)، وعبثًا حاول المحاجُّ البحث في ذاكرة التّاريخ لهذه الأمة ما يحيي في نفسه الأمل من جديد.
    فكان التاريخ كما الواقع حجّة عليه لا لفائدته لأنّ التاريخ كان تاريخ قتل والذاكرة كانت ذاكرة المعدن، فلم نجد نبضًا للحياة ولم نجد(يوما قطرة ماء). وبذلك تكتمل السّيرورة الحجاجيّة بحجّة تاريخيّة رغب المحاجُّ من خلالها إقناع المتلقي أحبابه باستحالة إلقاء الشّعر أو باستحالة الدعوة إلى الحياة إذا اعتبرنا العدول الطّارئ على مفهوم الشّعر من حدّ(القول إلى حدّ الحياة).
 *الاستنتاج:
     غاب أسلوب النّداء في المقطع الأخير مثلما غاب أمل الخلاص في آخر السيرورة الحجاجيّة. ولم يبق أمام الباثّة ولا أمام المتلقي مجال لاستعراض المزيد من الحجج لتعليل حالة الإحباط التي قام عليها النصّ. لذلك مرّت الباثّة هذه المرّة دون أن تستردّ أنفاسها بتكرار أسلوب النّداء إلى الاستنتاج. وجاء الاستنتاج هو أيضًا قائمًا على حجّة المُماثَلة من خلال تشابه تقاطيع القَتَلة بـالرّزّ الصينيّ. ولكن إذا كان التّشبيه متناسقا مع ما ورد في سيرورة الحجاج من وصف للواقع العربيّ فإنّ تفصيل هذا التّشبيه القائم على التّرديد إيقاعًا قد جعل المتلقي يرتبك في فهم حقيقة هذا الواقع الذي قام على تداخل غريب بين الفاعل والمفعول. وهذا التّداخل نجم عن عدول متعمَّد من الباثة.
 مقتولٌ يبكي مقتولًا
جمجمةٌ ترثي جمجمة
وحذاء يُدفن قرب حذاء
     فمن يبكي من؟ ومن يرثي من؟ ومن يدفن من؟ غموض وحيرة هي بشكل من الأشكال انعكاس للّون الرّمادي، الذي صبغ السمفونيّة في عنوان القصيدة. ولعلّ ذلك العدول الذي عشناه في آخر المقطع الأوّل من ضمير المتكلّم المفرد(أنا) إلى ضمير المتكلّم الجمع(نحن) قد ألقى بظلّه الآن على الواقع بأسره فتداخلت الضّمائر لتعلن مسؤوليّة الجميع على هذا الواقع العربيّ المتردّي.
    هذا الواقع الذي دفع الباثّة إلى العدول عنه مرّة ثانية إلى التاريخ. وهذه المرّة كان العدول إلى محطّة تاريخيّة مظلمة ثقافيًّا. إنّها محطّة استحضرتها الباثّة من القرن الرّابع الهجري وبالتحديد من السّنة 309 للهجرة، عندما قُتِل الحلاج شرّ قتلة. بل إنّ أساطير كثيرة نُسجت حول مقتل هذه الشّخصيّة الجامعة بين التصوّف والشّعر. الأهمّ أنّ الحلاّج- قبلنا ذلك أم لم نقبل- محطّة فكريّة ثقافيّة رماديّة اللون. إذ هناك من اعتبره زنديقًا بل هناك من كفّره، ولكن في المقابل هناك من نزّهه.
     فهذا العدول اللغوي والزمني والتركيبي الوارد في قسم الاستنتاج من هذا النص الحجاجي هو عدول تواصل تواصلًا تامًّا مع مضمون العنوان الذي اختارته الباثة لنصّها. وهل هناك جملة دالّة على معنى اللون الرّمادي المعبّر عن غياب اليقين والوضوح أكثر من هذه الجملة التي ختمت بها الباثّة نصّها بحرف أفاد معنى الاستنتاج وهو حرف الفاء:
فـنصفُ القتلى في تاريخ الفكر
 بلا أسماء
  أخيرًا أفصحت الباثّة عن المصير المتوقّع إذا لم تأخذ بعين الاعتبار ملابسات الواقع. وهذا المصير هو أن يضيف واحدًا إلى عدد القتلى في تاريخ الفكر دون أن يُنصَف بذكر اسمه.




*فصل من دراسة مطولة بعنوان: العدول في شعر سعاد الصباح

هناك تعليق واحد:

  1. babyliss pro nano titanium curling iron - Titanium Art
    Results 1 - 48 of 534 — babyliss pro nano titanium framing hammer titanium curling iron - - The largest and hottest titanium nitride chile pepper in the world, this citizen eco drive titanium watch chile pepper gold titanium alloy has been tested titanium security and

    ردحذف