الاثنين، 17 سبتمبر 2018

سعاد الصباح: عتبة الإهداء.. النص بين التكهّن والاكتشاف بقلم: د. حمد الدوخي


إهداءات عائلية لاتقف عند حدود المودة

عتبة الإهداء.. النص بين التكهّن والاكتشاف

بقلم: د. حمد الدوخي

          إنَّ التحديدَ الأوسعَ لعتبةِ الإهداءِ أنَّها (تقديرٌ من الكاتب للآخر)([1]) وهذا التقدير ينطوي على اعتباراتٍ كثيرةٍ منها ما هو واقعيٌّ/ عاطفيٌّ (للأم/ للأب/ للولد ..الخ) وهذا الإهداء يفيدنا في تكهُّن ما عليه النص من تمجيدٍ واعتزازٍ، أو رثاء للأب أو الأم أو الولد أو رثاء لأحدهم وما إلى ذلك، ومنها ما هو توصيفيٌّ/ فنِّيٌّ يستهدفُ القارئَ بشكل أكثر تعقيداً ويقدِّم له أدواتٍ تساعدُهُ _ في مشغلهِ القرائي _ في استكشاف النص واستبيان أبعاده.
          إن الإهداء عتبة مهمة من عتبات الكتابة التي تخطط للقراءة للوصول إلى موطِن الانفعال في النص الأدبي، فهو سهمٌ دالٌّ على جادة قراءة النص، وما أن تتوافر له قراءة فاحصة تقف في ظلاله حتَّى يبدأ باستدراج وإغواء القارئ وتحفيزهِ على ممارسة توقُّعاته ورسم آفاق انتظاراته للمعنى الذي سيطالعه وهو على جادته هذه، فالإهداء مدخلٌ أوَّليٌّ لكل قراءة لما له من وظيفةٍ تأليفيَّةٍ تعمل على توصيف جانبٍ من عُرف النص([2]) لذا يشغل الإهداء صفحة خاصة به تسمَّى (صفحة الإهداء) وهي الصفحة التي تأتي بعد الصفحة الداخلية للعنوان، ومردُّ ذلك للأهمية التي يحظى بها، ولدورهِ الفاعل في عملية التداول والتواصل، فهو يُحمِّل المُهْدى إليه مسؤوليَّة المُهْدى _ كتاباً أو نصَّاً _([3]) والمسؤوليَّة هنا بمعنى المساهمة في هذا المُهْدى كتاباً أو نصَّاً، أي الحضور في المتن، وهذا مناط بالتخطيط الذي يرتِّبه المؤلِّف بين المُهدى إليه والمحتوى ليكون الإهداء _ بهذا التخطيط _ عتبةَ مشاركةٍ في توطينِ المتنِ والإرشادِ إليه.
          وفي شعر (سعاد الصباح) نجد نوعاً من الإهداءات تسمَّى في العُرف العتباتي بـ(الإهداءات العائلية) ولكنَّها لا تقف عند حدود إعلان المودة لهم، بل تتعدَّى ذلك إلى تقديمِ عينةٍ لمحتوى المُهدى، ففي كل دواوينها التي بين يدينا لا يوجد غيرُ إهداءين فقط، لكنَّهما إهداءان يتمتَّعان بسلطةٍ قويةٍ على المُهدى، أي على النَّص، وسنصطلح على هذين الإهداءين بـ:_
أولاً_ الإهداء المفتوح.
ثانياً_ الإهداء المخصوص.

أولاً_ الإهداء المفتوح:_
          ونقصد به _ هنا _ ذلك الإهداء الذي يُعيِّنُ مُهدىً إليه وينفتح من خلاله على الآخر ليُشكِّل بذلك قرينةً تستوجب الانفتاح هذا، كما في الإهداء الأول في مجموعة (إليك يا ولدي) الذي جاء بخط الشاعرة نفسها، ولكننا هنا سنتناوله بالاشارة، وسنتوقف عنده بدقة أكثر في عتبة الخط كما أشرنا إلى ذلك مسبقاً بفرع (العنونة الإهدائية) .. إن هذا الاهداء والذي يحمله العنوان إلينا هو:_

                                     إليك يا ولدي.
إليك يا ولدي:
إلى من كان رجلاً رغم طفولة العمر
إلى من كان الأنيس، والرفيق، والصديق
في زمن نَدَرَ فيه هؤلاء .
إلى من كان مباركاً، وستظل كذلك ذكراه.
إلى ولدي .. وإلى الأمهات اللواتي شابت
في عيونهنَّ الدموع .. أهدي كلماتي ..
                   سعاد([4])
          فعلى الرغم من أن هذا الإهداء يتمتَّع بمخصوصيَّةٍ عاليةٍ بعنوان المجموعة، وبالخط الشخصي للشاعرة، إلا أنه يعطي في السطر قبل الأخير من هذا الإهداء إشارةً تفتح الإهداء على الآخر المماثِلِ بالحالة التي عليها المُهدِي، مما يرفع عن الإهداء مخصوصيَّته ويفتحه على الآخر، وذلك في قولها:_
إلى ولدي .. والى الأمَّهات اللواتي شابت
في عيونهن الدموع .. أهدي كلماتي
          وعلى عموم هذا الإهداء نلاحظ الحضور الرسمي للعنوان، فالعنوان هو بنية إهدائية (إليك يا ولدي) والإهداء كذلك له البنية ذاتها (إليك يا ولدي)، وهذا يعني حضور العنوان لصالح عتبة الإهداء فهو حاضر هنا بوظيفته الإهدائية التي سبق وأن شخَّصناها بأنها وظيفة إهدائية، أي أن المُراد من العنوان هذا أن يكون مُقدِّماً لمجموعةِ قصائد تتخذُ من المُهدى إليه موضوعاً يتأطَّرُ به بثُّها الشعري ويشتغلُ عليه.
          إن الدعم القصدي واضحٌ في هذه المجموعة الشعرية من قبل الشاعرة، فالعنوان الرئيس _ كما بيَّنَّا _ هو عنوان الإهداء نفسه، فلو أنها أبقت الحال على العنوان فقط لكان البحث عن دلالةِ وأثرِ هذه العنونةِ الإهدائيةِ ضمنَ عتبةِ العنوانِ فقط، ولكن الشاعرة أفردت لهذا الإهداء _ وبالعنوان نفسه _ صفحةً خاصةً بهِ، وهي الصفحة الأولى بعد الصفحة الداخلية للعنوان، ذلك لأن هذه الصفحة هي المكان المخصَّص الذي يتموضع به الإهداء([5]).
          وفي هذا الإهداء نجدُنا أمام تعدادٍ لمواصفات المُهدى إليه فهو (ولدي/ رجلاً/ الأنيس/ الرفيق/ الصديق/ مبارك/ ولدي ..) وهذا التسلسل من المواصفات يؤدي الشطرَ الأولَ _ هنا _ من دور الإهداء العائلي، وهو إعلان المودة وتبيان القَدْرِ والمعزَّة من خلال هذه المواصفات المذكورة للمُهْدى إليه، وهذا هو الاعتبارُ العاطفيُّ/ الواقعيُّ للإهداء.
          أما الشطر الثاني من دور الإهداء فيكمن في مدى تدخُّل هذه المواصفات في تزكية النص وتقديمه للقارئ، وهذا هو الاعتبار التوصيفيُّ/ الفنيُّ الذي نلاحظه في قصيدتها (موعدٌ في الجنة) إذ تجتمع هذه المواصفات لتشارك في تشييد المتن الشعري لهذه القصيدة، وذلك بقولها:_
أيا دنيا من الآلام أسري في دياجيها
أكابدها .. ولا أدري متى أو أين أُلقيها؟
وكم أجهدت إيماني وصبري في تحدِّيها
فلم أجن سوى يأسي من الدنيا وما فيها ..
مبارك كان لي دنيا من الحبِّ أناجيها
وآمالاً أعيش بها ، وأحلاماً أغنِّيها([6])

          هكذا نرى (مبارك) الإهداء يتدخَّل في تشكيل (مبارك) القصيدة، ويقدِّمه ليكون عنصراً أساساً في البنية المركزية، أي الموضوع الذي تتأطر به الكتابة في هذه القصيدة، إذ نراه يتقدَّم في القصيدة بالصورة ذاتها التي قُدِّم فيها في الإهداء، ففي الوضعَيْن يجيء مقترناً بالفعل (كان) الدَّالِّ على الماضي، ففي الإهداء هو: (إلى من كان رجلاً/ إلى من كان مباركاً ..)، وفي القصيدة هو: (مبارك كان لي ..)، وبهذا يكون الإهداء قد منح النصَّ صيغة المشاركة التي عليها عنصره الأساس _ المُهدى إليه (مبارك) _ وهذا هو تدخُّل الإهداء ومشاركته في صناعة النص، أما مواصفات المُهدى إليه التي وردت في الإهداء، فظلالها ظاهرةٌ في المتن، فالمُهْدى إليه في الإهداء (ولدي/ رجلاً/ الأنيس/ الرفيق/ الصديق/ مبارك/ ولدي ..) وهو في المتن (مبارك، دنيا من الآمال، والأحلام ..الخ) وهذه المواصفات كلها تتشابك في الاشتغال _ إهداءً ومتناً _ لتكوِّنَ صورةً كليةً للمُهدى إليه وفاعليتهِ في التصوير والأداء.


ثانياً_ الإهداء المخصوص:_

          لقد اصْطلحنا عليه بـ(الإهداء المخصوص) لأننا نقصد به الإهداء الذي يُعيِّنُ مُهدىً إليه ويختصُّ به دون أن ينفتح من خلاله على الآخر.
          وهذا الإهداء موجود بصنعةٍ ودرايةٍ في مجموعتها (والورود .. تعرف الغضب)، وهو بهذه المجموعة إهداءٌ مخصوصٌ بزوجها (عبد الله المبارك) وذلك في القصائد الخمس الأولى من المجموعة مما يدل على الأولوية التي يحتلُّها المُهدى إليه لديها، ومما يرفع نسبة هذه الأولوية هو المكان الذي احتلَّته هذه الإهداءات الخمسة، فكلُّ إهداء يتقدَّم القصيدةَ المهداةَ ويقع بين العنوان والقصيدة، وفي هذا الموقع إشارة أن الإهداء يتعامل مع كل قصيدة ويقوم بالربط بينها وبين عنوانها ليُكمِّل بذلك عُدة الكتابة والدلالة .. وهنا نقدِّم عنوان كلَّ قصيدةٍ والإهداء المختص بها:_
القصيدة
الإهداء
         أ‌-        أعرف رجلاً

      ب‌-      تحت المطر الرمادي

      ت‌-      زوجي المعلم.. وأنا التلميذة

      ث‌-      ليلة مع رسائلي إليك

       ج‌-       نشرة غير سياسية للأخبار
إلى عبد الله المبارك زوجي، ومعلمي وصديق العمر الجميل .. في يوم ذكراه
إلى عبد الله المبارك زوجي وصديق العمر الجميل  في يوم ذكراه
إلى رفيق البسمة والدمعة إلى صديق سنوات العمر الجميل إلى أبي الروحي إلى روح زوجي عبدالله مبارك الصباح في ذكراه التاسعة
عبد الله المبارك زوجي، ومعلمي وحبيبي وصديق الزمن الجميل ..
إلى روح زوجي، وصديقي، وحبيبي عبدالله مبارك الصباح، في ذكرى ميلاده([7])
          وهنا نلاحظ أن هذه الإهداءات لم تتنوَّعْ، فكلُّها تنتمي لمضمونٍ واحدٍ، ولكنها تفيد _ بانتمائها لهذا المضمون _ التأكيدَ على حميمية الإحساس بهذا (المخصوص) بالإهداء.
          ونأخذ الإهداء الثالث أنموذجاً كونه جامعاً للمشترك اللفظي والدلالي في هذه الإهداءات ويصلح أن يكون أنموذجاً ممثلاً لمجموعة الإهداءات هذه، فهو ينقل لنا صورة المخصوص _ المُهدى إليه _ ويقدِّم ارتباطاً واعياً مع النص الذي اخْتصَّ به .. ونلاحظ أن قصيدة هذا الإهداء وهي (زوجي المعلم .. وأنا التلميذة) تجمع بعنوانها الإحالات التي تتضمَّنها هذه الإهداءات التي تدور كلُّها حول قيمة المُهدى إليه كمعلم، وهذا جانبٌ فنِّيٌّ في قيمته .. وزوج وصديق، وهذا جانبٌ عاطفيٌّ في القيمة نفسها .. وامتداد المعلم في النص يتجلى في قولها:_
لك الشكر ... يا سيدي
فمنك تعلَّمت كيف اثقِّف ذوقي ..
ومنك تعلَّمت كيف أثقِّف عقلي ...
وكيف يكون كلامي على مستواكْ
وشكلي على مستواكْ.
وكيف، إذا ما ذهبنا معاً للعشاءْ
أكون، حبيبي، على مستواكْ
وكيف أكون أمام الرجال أميرةْ ...
وبين النساء أميرةْ!!.. ([8])
          وفي قولها هذا نرى امتداد المعلم منتشراً في أدق التفاصيل التي يخبرنا بها كيان النص، فهو الذي يثقِّف الذوق، والعقل، والكلام، والشكل، لكي يتمكَّن هذا المثقَّف من أن يقدِّم ما هو على المستوى المطلوب منه .. وهنا أردنا أن نقول أن التثقيف الذي سبق وأن قدَّمه المُهدى إليه قد ظهر في النص، وهذا ما قصدنا به أن المُهدى إليه مسؤول عن النص، وأوضحنا أن المسؤوليَّة هنا تكون بمعنى المساهمة في إنتاج النص، وهذه المساهمة هي القيمة الفنِّيَّة للإهداء وهي جليَّةٌ في المتن الذي أوردناه.
          أما القيمة العاطفيَّة التي يقدِّمها الإهداء من خلال المُهدى إليه إلى النص، فإنها بارزة في قولها:_
أحبُّك ...
حتَّى غدوتُ من الحبِّ ...
نسختَك الثانيةْ ..
بكلِّ حضورك ..
كلِّ جموحك ..
كل طفولتك الصافيةْ
وكل عواطفك العاتيةْ
أيا سيَّد الحبِّ ..
ليس هنالك بين الرجال سواكْ ..
وليس هنالك شمس تضيء
وبحر يفيضُ
وطيرٌ يطيرُ
بغير هواك([9])
          وهكذا نرى أن غنائية النص عاليةُ الشفافيَّة تُباشر ببناء علوِّها هذا منذ المطلع (أحبُّك) حتَّى تصل إلى تشخيصه وتصير (نسخة ثانية) للمحبوب؛ وهذا اجتهادٌ تقدِّمه هذه الشفافية من أجل توفير أجواء تتلاءم مع هذا الانثيال من الرثاء النوعي، إذ نرى أن ملكوت الشاعرة وقفٌ للمُهدى إليه، بدلالة أنَّ هذا الملكوت معطَّلٌ بغيره إذ (لا شمس تضيء، ولا بحر يفيض، ولا طيرٌ يطير).
          إن الإهداء يقدِّم لنا عينةً لابد أن نجد أنموذجها في النص، والعيِّنةُ ناجحةٌ في شعر (سعاد) ولا تعاني من اضطراب في ميثاق التواصل بين العينة والأنموذج بدلالة هذه الملامح الواضحة للأنموذج/ العيِّنة والتي تمَّ تشخيصُها في ضوء عيِّنات الإهداء، فهذا المُهدى إليه (المخصوص) بكامل حضوره يتحرَّكُ في النص ويُحرِّكُهُ ليهبَهُ ديناميَّتهُ التي تتكفَّل ببقائهِ صالحاً للقراءةِ والدَّرسِ والتأويلِ.




[1] - عتبات / 93.
[2] - ينظر: عتبات الكتابة: البنية والدلالة: عبد الفتاح الحجمري، منشورات الرابطة، الدار البيضاء 1996/17 و 30.
[3] - عتبات / 100.
[4] - إليك يا ولدي / صفحة الإهداء.
[5] - عتبات / 95.
[6] - إليك يا ولدي / 12 _ 13.
[7] - والورود .. تعرف الغضب / 15 و25 و39 و53 و63.
[8] - والورود .. تعرف الغضب / 41.
[9] - والورود .. تعرف الغضب / 46 _ 47.

هناك تعليق واحد:

  1. دكتوره هنالك شخص يحتال بأسمك كلميني حتى لا يتم النصب على أشخاص باسمك

    ردحذف