الاثنين، 17 سبتمبر 2018

الكتابات النقدية حول تجربة الشاعرة سعاد الصباح (نقد النقد) - د.نزار العاني


ــــــــــــــــــــــــــــ


مقدمة:
من الصعب جداً الحديث عن فضاء تجربة الشاعرة سعاد الصباح في محاضرة أو ندوة وخلال زمن محدد . الحديث عن تجربتها الشاملة أشبه ما يكون بالطلب من حمّال أن ينقل على ظهره حمولة شاحنة كبيرة من السفح إلى ذروة الجبل ! لذا قررتُ اختيار قطرة صغيرة من بحر تجربتها ودراسة ما قاله بعض النقاد في كتبهم عن صفاء هذه القطرة وعذوبتها ونقائها .
سأختار فقط ستة كتب نقدية حاولت السباحة في بحر شعر سعاد الصباح والخوض في عبابه والرسو في مرافئه الزرقاء الباهرة ، وإلقاء الضوء على هذه الكتب والدخول إلى متونها من باب "نقد النقد" ، وبهذا الإختيار أكون قد قدمتُ لكم معرفة جديدة،وساهمتُ في تلوين شواطىء  بحر شعر سعاد الساحر بفيروز الحب وليلك التمرد وبياض التنوير .


1ـ النص والنص الغائب في شعر سعاد الصباح (227 صفحة) / د. عبد الملك مرتاض


مائتان وعشرون صفحة من القطع الكبير لدراسة قصيدة واحدة لا غير من قصائد الشاعرة ، وأعني قصيدة "كُنْ صديقي " . وهذه المحاولة  ، أي تكريس كتاب كامل للإحاطة بقصيدة واحدة ، هي محاولة فريدة في النقد الأدبي .
الدكتور مرتاض ناقد مثقف كبير ، وعتاده المعرفي يخيف أي قارئ ، ويملك عقلاً متسائلاً وجريئا يقترب به إلى رواق الفلسفة ، وقد وظف كل هذه القدرات لإجلاء مواطن الجمال الخفية في هذه القصيدة الشهيرة . والمجهود النقدي التحليلي واللغوي والبياني والبلاغي المبذول في هذا الكتاب لاستقصاء بواطن وخفايا قصيدة " كُنْ صديقي" لاتضاهيه دراسة أخرى موازية في الأدب العربي الحديث .
يقسم الناقد القصيدة إلى ست لوحات شعرية ، وإلى أربع وعشرين وحدة نسجية ، ويكد ويجتهد ويحفر وينقب للإمساك بجوهر القصيدة . وهو في مدخل كتابه يحشد أسماء سقراط وكوندياك وديكرو وتودوروف وكانط ودريدا وأرسطو وأفلاطون وهيجل وروسو ودوسوسير وهدجروهوسرل وهارتمان ونيتشه وبارت وإيكو وغيرهم . ثم يستعرض كل مدارس النقد الحديثة  : تقنيات القراءة ، نظرية التلقي ، علم الدلالة ، الكتابة الصوتية، ملكة المعرفة ، اللسانيات والكثير غيرها .  وتكتظ مقدمته بالمصطلحات النقدية : واحدية النص ،السيمائيات ،اللوغوس أو العقل الأول ، التقويض أو التفكيك ، التأويل ، المقصدية  ... إلخ .
إن قصيدة "كُنْ صديقي"  الجميلة بعفويتها وطلاقتها وصدقها لا تحتمل كل هذه الترسانة النقدية لتشريحها وإزاحة النقاب عن بعض الغموض والظلال الخفية التي تنداح في كلماتها وجملها ، ولعل صوت ماجدة الرومي حين غنتها كان أكثر فصاحة من كل هذه الأسلحة النقدية والأكاديمية التي فتكت بجسد القصيدة الطري !
سعاد الصباح منذ كتبت قصيدتها الأولى وإلى اليوم ، تمسك بخيط من حرير ، وفي طرف الخيط طائرة ورقية ملونة ، تتأرجح مختالة بين وسادة الريح وأحلام الزرقة الساحرة ، وترنو طائرة الشاعرة أو قصيدتها على فضاء الأماني السارحة بين الغيوم ، وتجمع الضوء والندى  لتسقيه للظامئين للحب . ومثل هذه الطائرة الورقية / القصيدة لا تحتاج إلى طواقم تقنية من الناسا لتشرح  لنا أسرار دينامية الطيران النفاث . إن د. مرتاض  استعان بوكالة الفضاء الأمريكية (الناسا) لدراسة "كُنْ صديقي" ،واسترسل لتدبيج نص من خمسة وثلاثين ألف كلمة للإحاطة بمئتين وخمسين كلمة !! وباعتقادي الشخصي ، انحنى ظهر القصيدة تحت وطأة هذا العبء النقدي التحليلي التفكيكي التأويلي السيميائي . وسأبقى أحب القصيدة بوجهها الطبيعي دون ألاعيب الماكياج التي حاول د.مرتاض أن يزين بها جبينها وخصلات شعرها وكحل عينيها . لكن وقد أعطيتكم فكرة مقتضبة عن الكتاب ، أود أن أقول كم يحتمل شعر سعاد الصباح أن يكون ساحة مفتوحة للدرس المُعمّق ، وهذه هي الفضيلة الراسخة التي يؤكدها الكتاب المذهل بمنهجه وعمقه وعلو كعبه .
وإذا سألتموني ماذا أنا كاتب عن قصيدة "كُنْ صديقي" لو طُلب مني ذلك لقلت : سأدرسها كاملة في أفياء رسالة "الصداقة والصديق" لأبي حيان التوحيدي ، فكاحل القصيدة يقع على كاحل الرسالة ، وكم جال في خاطري تعريف أبو سليمان للصداقة الذي ينقله أبوحيان : (
قلت فما الفرق بين الصداقة والعلاقة؟ فقال: الصداقة أذهب في مسالك العقل، وأدخل في باب المروءة، وأبعد من نوازي الشهوة، وأنزه عن آثار الطبيعة، وأشبه بذوي الشيب والكهولة، وأرمى إلى حدود الرشاد، وآخذ بأهداب السداد، وأبعد من عوارض الغرارة والحداثة) ولكنت أقمت جسراً يصل بين سعاد والتوحيدي ، وفرشتُ حاضرها فوق روابي ماضيه !


2ـ عزف على أوتار مشدودة : دراسة في شعر سعاد الصباح (362 صفحة) / د.نبيل راغب
يحق للشاعرة سعاد الصباح أن تتباهى بهذا الكتاب الفريد الذي أملك الشجاعة الموضوعية والمعنوية لأقول عنه أنه درّة نقدية ، في منهجه ورصانته وإحاطته الشاملة بتجربة الشاعرة الخصبة .
منذ سنواتي الجامعية الأولى في مطالع ستينيات القرن الماضي وأنا أتابع بشغف مقالات نبيل راغب ، ورسائله النقدية لبعض المجلات الأدبية العربية ، وكتاباته واسعة الطيف وثقافته الغربية العميقة ، وقبل أن يبدأ بإصدار مؤلفاته التي تجاوز عددها الستين كتاباً ، غير المترجمات والأعمال الإبداعية الكثيرة .
نحن أمام ناقد وكاتب مثقف من العيار الثقيل . ولهذا قلت أن من حق الشاعرة الكبيرة سعاد الصباح أن تتباهى بهذا العمل . وهذا العمل في منهجه ومقاربته لتجربة الشاعرة ينهل من الأساليب النقدية التقليدية وأكاد أقول المدرسية ، وذلك لأن فصوله الخمسة ، هي ثوابت  أو محاور شعرها ، وهي العبق الرومانسي ،الإيحاء الصوفي ،المرأة، الحس القومي الحضاري والوحدة العضوية الفنية الجمالية في قصيدتها .
يتتبع الناقد هذه المحاور الأصيلة  الخمسة ويكتب بعمق عن حقيقتها وحضورها في نصوص وقصائد ودواوين الشاعرة ، وكيف يتلاقى شرر قصيدتها بالوهج المبثوث في نصوص الشعراء الكبار في تاريخ الأدب الإنساني ، وأين تبتعد عنهم وتفارقهم ، وتنويعاتها الذاتية على نغمة الحب لدى الرومانسيين .
ويرى في محور الإيحاءات الصوفية لدى سعاد ، أنها تتوغل بعيدا لكشف الغطاء عن أعمق ما في مشاعر الإنسان العربي من خصال ومثالب ، وأن رؤاها  وبصيرتها  سمحت لها أن تلمح الجحيم عند بودلير ، والجنة عند دانتي ، وبحدس زاخر باليقين أمسكت بتلابيب ظروفنا العربية الملتبسة ، وحاولت المستحيل للقبض على حقائق الأشياء ، لمغادرة الإدراك الصوفي ومتاهة أوهامه ، وإرشاد الذات العربية إلى مشارف العقل وشواطئ اليقين . يقول د. نبيل : " تقترب سعاد الصباح من فكرة هيجيل التي تؤكد على أنه لا شيء حقيقي إلا الروح ، وهذا لا يجعلها تثق بالمنطق كثيرا وإنما بالحدس " ص 122 .
في محور المرأة ، يصول الناقد ويجول ، ودائماً يعود إلى الأدب الغربي وكيف نظر هذا الأدب إلى المرأة ، في الفلسفة والمسرح والشعر ، في الأساطير، وعند شكسبير وإبسن وبرناردشو ومسرحياتهم ، وعند الشاعرين  تشوسر الإكليزي  وبوكاتشيو الإيطالي ، ومافعل كل هؤلاء على صعيد مسيرة التنوير ، وموقع سعاد الصباح بين هؤلاء الفرسان الكبار ، ومعركتها الظافرة لتحرير المرأة العربية من قيود عصر الحريم .
ويكشف  المحور الرابع  عن دواخل سعاد الصباح الوطنية والقومية وعن علاقتها بتاريخنا العربي وموروثنا الإجتماعي والسياسي وكياننا الحضاري وقدرته على الصمود في وجه الأنواء والعواصف القادمة . وهنا لابد من التذكير أن تاريخ كتاب نبيل راغب يرجع إلى عام 1992 وليس إلى أيامنا هذه . ويكشف  المحور عن إحساس سياسي عميق بالخواء لدى الشاعرة ، يشبه ذلك الإحساس الذي فجر قصائد ت.س.إليوت ، ومرد ذلك عند الناقد مأساة الغزو العراقي للكويت ، ووعيها الحاد لمرارة الحدث ، ورغبتها في إيقاظ الغافلين لمواجهة مجاهيل المستقبل المظلم . سياسياً وفكرياً وحضارياً كانت سعاد الصباح تبحث عن خلاص .
في المحور الأخير دراسة عن أهم الجوانب الفنية التي وسمت شعر سعاد الصباح ، وأن خيوط قصيدتها تلتحم معا في نسيج بصري وسمعي وحسي وفكري وانفعالي يهب القارئ متعة جمالية لا متناهية . وأقول أنا ، لو لم يكتب عن سعاد الصباح إلا هذا الكتاب ، لكان فيه الكفاية والغنى والكمال  .

3ـ لغة التماس : مطالعة في شعر سعاد الصباح (175 صفحة)/ محمود حيدر
وهذا الكتاب حلقة في (سلسلة مبدعون عرب ) ويكتب الناشر على غلاف الكتاب الأخير مايلي: ".. مكتبتنا العربية في حاجة إلى قراءات تتميز بروح جديدة متجددة، تعمل على تخطي سابقاتها...إن هذا الكتاب هو حلقة نموذج من تجربتنا الجديدة .." وصدق الناشر فيما كتب .
مذاق الكتاب مختلف عن سابقيه ، في الرؤية وفي اللغة وفي الأسلوب وفي التناول ، وهو أقرب الكتب إلى مزاجي الشخصي في القراءة . وإذن ،يحق لي أن أتباهى كقارئ بهذا الكتاب ، كما منحت الشاعرة الحق بالتباهي بالكتاب السابق ، وسأقول لكم لماذا .
تصادف أن معظم مراجع الكتاب التي يربو عددها على عشرين مرجعاً ، هي بعض ما قرأت منذ مطالع الشباب ، ولذا وجدت في أطروحاته ما يتسق مع مدارات فكري النقدي ، وأرى أن أحد هذه المراجع وهو كتاب سمير الحاج شاهين (لحظة الأبدية : دراسة الزمان في أدب القرن العشرين) من أجمل مائة كتاب قرأتها في حياتي . ولو قيض لي أن أكتب دراسة وافية عن شعر سعاد الصباح لما ترددت في إحالة علاقة شعرها بالزمان إلى هذا المرجع كما  فعل محمود حيدر ، وواضح أن لهذا الكاتب نزوع فلسفي غير قابل للإخفاء ، وبعض فرادته يكمن هنا  .
سأذكر لكم عناوين الفصول الخمسة، وهي خارجة عن المألوف ، لتتأكدوا مما قلت : الأول/ ثالوث اللغة ، الشعر ، المستحيل . الثاني / المجاز: ثنائية المحو، الخلق . الثالث : حركية الزمن في القصيدة . الرابع : القصيدة في زمن الألوهة . الخامس : حب المابعد .
عناوين مفارقة لراهنية الكتابة النقدية حين نشر الكتاب عام 1995، وكما جاء في التمهيد : " دائماً تحملني الرغبة إلى المابعد .هناك حيث يمكث ما لا يُرى ، ولا يُسمع ، ولا يُحس ...في المابعد يمكث الشعر ...قراءة من داخل .. من منطقة تغشاها العتمة ... قراءة تَذوقُ القصيدة ولا تفترسها بالنقد " وكأن محمود حيدر يوافقني على تقويمي لكتاب د. عبد الملك مرتاض . فماذا أضاف هذا الكاتب الحصيف إلى زوادة النقد في الكتابين السابقين ؟
يعترف الكاتب ويبوح : " إنها تجربة في الكلام على الشعر . تجربة وحسب . لا منهج لها . قراءة بلا تقليد . وكتابة كذلك " .هذه هي المعادلة السحرية لكل إبداعات وعوالم وخيالات سعاد الصباح ، كتابة شعرية بلا تقليد ، انبجاس اللغة والمعاني من وجدان إنساني لا يكشف عن تضاريسه ، فتسيل لغة الشعر وتنسكب معانيه في نهر الوجود باحثا عن أبديته . هذا الكلام لي ، ولكنه الكلام الذي يفصح عنه عنوان الكتاب .
هناك جدلية بين كينونتين ، كينونة اللغة وكينونة الأنثى ، والتجربة الإبداعية لسعاد الصباح تحيا  وتتحرك وجوديا في "منطقة  التماس"  ( حيث لا يفصل فاصل بين الرؤية وموضوعها . وحيث يستوي الزمان والمكان والحواس كلها ضمن آلية اختلاج ذاتي . فينبثق النص حالتئذٍ ليس كوصف لهذا الإختلاج ، بل كتجسيم لعالم قائم بذاته وفي ذاته . هذا العالم هو القصيدة ) ص 21 .لم يكتب ناقد أبداً عن "لغة التماس" في الشعر عموماً ، وفي تجربة سعاد الصباح خصوصاً ، وهي لغة تند وترفض التقليد ولا تسير على قواعد مُسبقة في الكتابة ، وتقتضي الأمانة النقدية القول أن قصيدة سعاد الصباح لا تشبه قصائد الشعراء الآخرين ، وذلك لأن لغة التماس هي لغة متحولة ومتفجرة ولا تثبت على حال ، ولا تتبع نمطاً أو أسلوباً ، فمنطقة التماس بين كينونة اللغة وكينونة الأنثى تمنحهما معاً احتمال الصيرورة ، وبالتالي عجائبية وإدهاش مذاق قصيدة سعاد الصباح .
وكي أعطيكم مسحاً سريعاً لروح الكتاب الجامعة ، سأكتفي بذكر الكلمات المفاتيح لفيضان الجهود النقدية التي بذلها محمود حيدر في الفصل الأول من الكتاب للقبض على السمات الجوهرية لإبداع سعاد الصباح : اللغة الحدسية وأسرارها، اللغة المكتفية بذاتها، الملحمة الجمالية ،لغوية الجسد الحسية واستحالاته ،أنسنة القصيدة .
والكلمات المفاتيح  في الفصول الأخرى تنوس وتتحرك في مناطق استكشاف لم يطأها قلم ناقد آخر ، وتؤذن بتدفق عشرات الأسئلة حول الهموم التي حملتها قصائد الشاعرة ، والمسارات التي مشت عليها ، ومعاني الوجود الإنساني العميق ونبضه ، مثل الحب والموت والعدم والسعادة  والحرية والقلب والعقل والمجاز والواقع والزمن والحياة والمحسوس والموهوم والخوف والجرأة والنفس والقلق والحزن ولغز الوجود واستباحة الذاكرة . وفوق هذه المساحة المفاهيمية الواسعة يتحرك قلم وذهن الكاتب ليفتح نوافذ فلسفية تطل منها قصائد سعاد الصباح ، وليعمل على انعتاقها من التأويلات المتسرعة للكتابات السابقة التي تحبسها في قمقم الغزل والحب .
ويؤكد الكاتب على ماجاء في عنوان الكتاب ، وأنه "مطالعة" وليس نقداً ، وقد تكون تجربة استبصار لمسرح  نصوص سعاد الصباح ، واستدراج النصوص للنطق بدفء وحميمية شعرها كمنزل تطمئن إليه قلوب وأحاسيس القراء . وباعتقادي الشخصي نجح الكاتب في استدعاء الأقلام المُغامرة لكسر أقفال كل الأقفاص التي حاولت بعض الكتابات حبس قصيدة الشاعرة وراء قضبانها ، إذ لا يليق بهذه القصيدة الحرة والمتمردة سوى الفضاء الرحب .
4ـ سعاد الصباح .. الشعر والشاعرة (170 صفحة) / فاضل خلف
هنا نحن أمام كاتب
وشاعر وناقد كويتي ، وليس جزائرياً أو مصرياً أو لبنانياً كأولئك الذين سبق لنا تناول كتبهم ، ولذا جاء كتابه وهو يرفل بالحب للكويت التي أنجبت هذه القامة الإبداعية السامقة التي أسمها سعاد الصباح ، ويجول فيه ليرصد مكامن الضوء في أبعادها الفنية واللغوية وقدرتها على التحدي والثبات في مواجهة أحداث عائلية وإنسانية ووطنية لم تكن سهلة ، وكيف عبرت من ضفة الحزن إلى ضفة الشعر الذي هو عندها " وثيقة التأمين ضد شيخوخة الأحداث ، وضد جفاف الشجر وجفاف البشر" ص10 .
يكتب فاضل خلف مقدمة وافية من أربعين صفحة مستعيراً ومعتمداً على دراسات وكتب ، وقراءة أدبية لأكثر من ديوان ، والتركيز على ديوان " فتافيت امرأة" الذي يرى فيه دفقة عالية من الخيال ، وهو عند سعاد خيال غير منفلت ، بل محكوم (بحس مطلق مع إرادة وتحكم عقلي بعملية الإبداع الفني ) ص49 .وتكاد تجليات هذا الخيال الخصب  تنقل شعرها إلى تخوم الأبدية . ويعتمد فاضل خلف كثيراً على جهود دارسين سبقوه وعلى ثقافته الشخصية وفهمه لماهية الشعر ، في سياق استخراج أحكام نقدية قاطعة تجزم بوحدة قصيدتها وتساوق معانيها ، ولا تحلق لغتها في غير فضاء القصيدة ، وأن الشاعرة فنانة من طراز رفيع ، تختزن في داخلها تجارب نفسية حية ، وثقافة عميقة ومعرفة متخصصة ، وهي أشياء جعلت من قصائدها مخاضات إبداعية مركبة حافلة بالتجديد والتأسيس والحداثة ، مفارقة ومناهضة  للوعظ والإرشاد السطحي ، وتأبى سعاد الصباح لقصائدها إلا أن تكون منارة تضيء كل جوانب الحياة ، وأن يكون الشعر عندها نبعاً للإلهام بمعنى الصفاء والإشراق بمعنى  الوميض الخاطف ، والنزوع المشروع نحو الكمال  .
ويكرس الكاتب حوالي ثلاثين صفحة لمختارات متنوعة من ديوان "فتافيت امرأة"، وثلاثين أخرى لدراسة لقصيدة "كويتية" ، ولفصلين مستقلين بنهاية الكتاب عن سمات التمرد الفني على الشكل الشعري القديم عند سعاد الصباح ، وهي ثلاث : تمرد التساؤل وتمرد المواقف وتمرد الرفض ، وموقع هذا التمرد في سياق حركات التمرد في الشعر المعاصر ، وفي هذين الفصلين إضافة ورؤوس موضوعات يمكن لدارسي الشاعرة المستقبليين الإنطلاق منهما نحو آفاق أبعد .
5ـ سعاد الصباح :شاعرة شتائية في الحب والغضب (365 صفحة) / اسماعيل مروة
يتأخر إصدار هذا الكتاب ( عام 2000) عما سبق من كتب ، وفيما اكتفى السابقون بقراءة ديوانين أو ثلاثة ، فإن اسماعيل مروة يفرد دراسته على عشرة دواوين ، وثلاثة كتب من التي تحدثت عنها كانت من بين مراجعه ومصادره (كتب : د. عبد الملك مرتاض، د.نبيل راغب ، أ. فاضل خلف) ، ولذلك جاء هذا الكتاب في أطروحاته وأسئلته ومقارباته أوسع باعاً مما سبق ، وقد غَنِمَ المؤلف الكثير ممن سبقوه واسترشد بهم ، وأضاف إلى ما تراكم من جولات نقدية للآخرين في عوالم سعاد الصباح شيئاً من خبرته الشخصية وذائقته وثقافته ، فجاء الكتاب مستوفياً لتجربة الشاعرة الغنية .
الكاتب اسماعيل مروة الذي يبدو أنه حصل على شهادة الدكتوراة بعد إنجازه لهذا الكتاب ، لذا لم يضع لقبه الأكاديمي على غلاف الكتاب ، لكنه والحق يقال باحث ضليع ومجتهد . وهو في تناوله لتجربة الشاعرة الكبيرة كان كما قال في المقدمة موضوعياً، وكان دافعه للكتابة عنها إعجابه الشديد بشعرها وحبه لهذا الشعر ، وأنه اعتمد على المنهج الوصفي التحليلي ، مترسماً خطى أستاذه نعيم اليافي في منهجه التكاملي ، وعناية هذا المنهج بـ (السياق التاريخي، اللغة ، الموازنات والمقارنات، الأساليب، العناوين والعبارات ، التذوق ، الإستفادة من الدراسات الحديثة ) ، وكما وعد الكاتب في تقديمه ، جاء الكتاب على مستوى الطموح ، لكن وعلى الرغم من هذا الحرص ، فإن الكتاب يخلو من الفهرس ، وكذلك كتاب نجوى حسن الذي سنتناوله لاحقاً ، وهذا أمر نادر وغريب في عالم الكتب ، ونقص منهجي لا مبرر له !
المخطط الهندسي للكتاب ذكي ومشحون بالتشويق : مقدمة ، وستة محاور رئيسة ، ولكل محور عناوين فرعية دالَّة ، وخاتمة . تتناول المحاور الرئيسة هذه الموضوعات : في القضايا الشعرية ، نشيج امرأة عربية ، بين الأنا والأنا ، فواصل من تراب الوطن ، معزوفة الفقد الحزينة ،من خصائص شعر سعاد الصباح . ولا يتسع المقام لذكر عشرات العناوين الفرعية لكل محور والتي تشكل خارطة طريق في تضاريس تجربة سعاد الصباح . وعلى سبيل المثال وفي محور الخصائص نقرأ : التأثر والتأثير، الموازنات ، المفارقة والسخرية، التضخيم والمبالغة ، الإحتفاء بالمكان ، الومضة الشعرية، الدرامية والبناء القصصي ، اللغة اليومية المتداولة .
قلت عن الكتاب أنه خارطة طريق ، وأضيف إنه بوصلة . وكما ارتأيت أن يكون كتاب د.نبيل راغب لصيقاً بالشاعرة ، وأن كتاب محمود حيدر هو الأقرب إلى مزاجي الشخصي ككاتب ، أرى أن هذا الكتاب هو الجامع المانع لكم وللقراء عموماً . لماذا ؟؟
د.اسماعيل مروة مدرس ، ولذا استخدم عقلية المدرس لتقديم المعلومات والآراء ، فهو دائما يلخص قراءته بأفكار محددة تأخذ أرقاماً : أولاً ، ثانياً ، ثالثاً ... وهكذا ولو اقتضى التعداد تجاوز الرقم عشرة (ص 94 ـ 98 / ص182ـ 183 مثلا) . وهذا الأسلوب هو المدرسي والأساس في الكتابة العلمية ، لقدرة القارئ على المتابعة والحفظ .
إذن ، نحن أمام كتاب مفيد ، ويكاد يرسم بأفكاره النقدية ، والمخطط الهندسي لأبوابه وعناوينه صورة شاملة ودقيقة لتجربة سعاد الصباح ، والنماذج التي اختارها من شعرها تتطابق مع الجوانب الفنية أو الفكرية أو النفسية التي أراد الكاتب توصيلها . ورأي الكاتب أن هذه التجربة من أكثر التجارب إشراقاً في أدبنا الحديث ، وفحوى تثمينه وتوصيفه لصاحبة التجربة أنقلها بشكل خاطف حرفياً من الخاتمة والصفحة الأخيرة من الكتاب : ( تدافع عن المرأة. تنتقد المجتمع.صاحبة رؤية سياسية.متفاعلة . متميزة وجريئة .أصيلة في شعرها.حداثية الرؤيا. تجريبية . متفتحة الذهن).
6ـ في ظلال الإبداع: مع الشاعرة سعاد الصباح (240 صفحة) / نجوى حسن
في هذا الكتاب نخرج من مدارات الذكورة الكاتبة إلى مدار الكاتبة الأنثى ، والكاتبة مع عزة مَلَك وأسمهان بدير من الكاتبات اللواتي كتبن عن سعاد الصباح ، وهُنّ ، وخصوصاً القاصّة نجوى حسن ، قرأنَ شعر الحب في دواوين سعاد ونظرتها للمرأة بصورة مختلفة ، إذ عنونت الكاتبة فصلاً في كتابها بـ "الأمومة والرثاء" ، ومفهوم الأمومة ينحدر هنا من سماء أنوثة القلم .

خمسة عناوين ومحاور للكتاب هي ( المرأة،الحب، الثورة والتمرد،
الحس الوطني والقومي،الأمومة ) .لاجديد في الأمر ، فكل من كتب وسيكتب عن تجربة سعاد الصباح سيجد قلمه أسير هذه الدائرة التي رسمتها قصائد الشاعرة ، ويختلف ناقد عن آخر بعمق التناول ونفاذ الرؤية ومستوى القراءة وأسلوب العرض وجمالية النص النقدي .
الشيء اللافت في هذا الكتاب هو ربط الكاتبة بين السمة الرومانسية في شعر سعاد الصباح وبين الثورة ، لأن الرومانسية في الأدب كانت ثورة على التقاليد الكلاسيكية المُحافظة ومحاولة للتجاوز، وأن الرومانسية ليست العاطفة والدموع والأشواق . بذلك تكون المرحلة الرومانسية عند شاعرتنا انعكاساً مبكراً للتمرد والتجديد على صعيدي الشكل والمضمون ، وهي تعبير عن موقف فكري من الحياة والوجود .
الكتاب يقع في أحابيل الإنشاء أحيانا واستعراض المهارات اللغوية لكاتبة قصة ، لكن الأنثى داخلها متعاطفة ومنحازة إلى روح وجوهر الأنوثة التي تكسو إبداعات الشاعرة ، فهي ضد شهريار بوضوح ، ومع شهرزاد المقموعة ، ولذا تبدو معركة سعاد الصباح إيذاناً بولادة طقوس حرية المرأة ، ونهاية للصلف الذكوري المستعلي .
وتختم نجوى حسن قراءاتها ومقارباتها لمسيرة وتجربة شاعرتنا الكبيرة في هذا الكتاب ، والوقفات التحليلية لكل محور من المحاور الخمسة ،  بتطبيق نهجها  النقدي على ديوانين من دواوينها ، هما "قصائد حب" و"امرأة بلا سواحل" . وفي اعتقادي الشخصي ، يبدو لي أن  القارئات سيُعجبن بهذا الكتاب أكثر من غيره ، ففي متنه حوار خفي بين قاصة وشاعرة ، وحوار بين سيدتين يلتئم على ثوابت حق الأنثى بالمطلق في الريادة والوعي والجرأة في بناء وجودها الإنساني الناجز .
خاتمة وشهادة :
في مكتبتي كتب أخرى باللغة الفرنسية  عن سعاد الصباح وتحتاج وحدها إلى محاضرة ،وعندي بحوث صدرت في كتيبات صغيرة ، ومنها : "سعاد الصباح :شاعرة الإنتماء الحميم" لفضل الأمين ، و"سعاد الصباح : رحلة في أعمالها غير الكاملة" لعبد اللطيف الأرناؤوط ، و" دراسة أدبية موجزة لمؤلفات الدكتورة سعاد الصباح" لرياض عبد الله حلاق .
ولكن الجدير بالذكر والتنويه  كتاب برهان بخاري الموسوعي عن شعر سعاد الصباح ، وهو كتاب إحصائي عن مفرداته وعروضه ومعجمه وعدد أبيات القصائد، ومسرد لمطالع القصائد حسب الترتيب الأبجدي . ولا أصنفه ككتاب أدبي أو نقدي ، لأن الصانع الحقيقي للكتاب هو برمجيات الكمبيوتر .
فماذا أنا قائل في الخاتمة ؟؟
نقلتُ لكم لمحات سريعة عن محتوى 1500 صفحة ، لستة كتب ولستة كتاب ، أعمارهم ودرجات تحصيلهم ومناهجهم متباينة ، وهم  من أقطار عربية مختلفة، وأجمعوا على الإشادة بتجربة سعاد الصباح ، وقد أتفق أو أختلف مع أطروحاتهم النقدية ، لكنني أشهد إذا حذونا حذو نقادنا العرب القدامى في تقسيم الشعراء إلى "طبقات" ، أن مكان سعاد الصباح في الطبقة الأولى . وستبقى تجربة حياتها وإبداعها وفكرها ، وفي كل ما أنتجت معرفيا من كتب النثر والدراسات التاريخية ، والتي تناولها قلمي حين صدورها ، تبقى  موضع اعتبار لكل عشاق الشعر والثقافة والفنون . أمدَّ الله في عمرها.
**

الكويت 14 فبراير 2017

هناك تعليقان (2):

  1. اتمنى احد يوصلنى بالاميره .د.سعاد الصباح

    ردحذف
  2. اريد مساعده ماليه من اجل مشروعي

    ردحذف