الأحد، 30 سبتمبر 2012

لاتذبحوا عصفور الحرية




| د. سعاد الصباح |

لا يحق لأحد أن يقص جناح الصحافة الكويتية بدافع المروءة والخوف على مستقبل الكويت، كما لا يحق لأحد أن يطفئ قنديل الحرية في وطننا لأن إطفاء هذا القنديل سيلقينا في الظلام، ويدخلنا إلى مغارة لا باب لها.
إن الحرية هي إرثنا الكبير في الكويت، وبفضلها استطعنا أن نقاوم غزو الغزاة... ونكسر سلاسل الحديد في أرجلنا...
الحرية هي مطلب الإنسان منذ أن كان الإنسان، ولا يمكنني أبداً أن أتصور إنساناً يضعون على شفتيه الأقفال، وهو الذي كرمه اللّه في كتابه الكريم بقوله: «ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين».
وإذا كان القدماء قد عرفوا الإنسان بأنه «حيوان ناطق»، فكيف نسمح لأنفسنا في الكويت، وفي بدايات القرن الحادي والعشرين، أن نلغي هذا التعريف بجرة قلم، لنعرف الإنسان بأنه «حيوان ساكت»... أو حيوان مرغم على السكوت... إن اللسان هو العضو المركزي في الإنسان وكل سلطة تفكر باستئصال ألسنة مواطنيها... إنما تشنق نفسها على أعمدة الجهل. وعلى هذا الأساس، فإن مشروع القانون المقدم إلى مجلس الأمة الكويتي، ليس سوى محاولة لوضع العقل الكويتي في قارورة وختمها بالشمع الأحمر.
وفي حين تتسع مساحة الحريات في الصحافة الأوروبية والأميركية، ولا توفر في تعليقاتها هيلاري، ولا ولي العهد الأمير تشارلز، لا نجد نحن في الكويت ما نتسلى به سوى أن نفش قهرنا في الصحافة والصحافيين.
إنني لأتساءل: هل صار اغتيال الصحافة الكويتية مطلباً قومياً؟ وهل صار الجهاد ضد أهل الفكر وحملة الأقلام هو أعلى مراتب الجهاد؟
لقد كانت الصحافة الكويتية في الستينات والسبعينات من أرقى صحف الخليج تحريراً، وتصنيعاً، وتقنية، بل كانت تأتي مباشرة من حيث الأهمية، بعد الصحافة اللبنانية.
ولم يكن لهذا الازدهار في نظري من سبب آخر سوى «الحرية». فعندما يكون هامش الحرية واسعاً، تدخل الصحافة عصرها الذهبي، وعندما يضيق هذا الهامش، تدخل الصحافة عصر الانحطاط.
إنني مع الصحافة الحرة، مهما كانت أخطاؤها.. فالحرية يمكن أن تصحح دائماً ذاتها... أما العبودية فهي قن «لا يسكنه سوى الدجاج».
وإذا كانت الحرية دائماً على حق، فهذا لا يعني انني مع حرية الانفلات، والتسيب والتخريب.
فالحرية هي وعي يتكون من داخل الحرية ذاتها... وليست أمراً بوليسياً يأتي من خارجها.
وما دام الصحافي يمارس «الرقابة الذاتية» على كتاباته، ويستلهم وجدانه القومي والأخلاقي، فلا خوف عليه من الانحراف.
إذاً، فلنقرأ الدستور الكويتي قراءة هادئة ومعمقة، لأن دستورنا هو المصدر التشريعي الذي يحمي حرية الرأي والفكر.
وكل محاولة للنيل من حرية الرأي، هي محاولة فاشلة للخروج عن النص.


> من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن»

الخميس، 27 سبتمبر 2012

تساؤلات عاشقة



| د. سعاد الصباح |


عصفورة مرهقة متعبة... أنا... تطاير ريشها عبر المحيط أبحث عن غصن شجرة خضراء، أو صفراء أو عن قطرة ماء.
ما الذي يشتهيه الطفل داخلي أكثر من يد حنونة تمسح دمعة حائرة عن وجنتيه المتوردتين بالقلق والحياء...
ما الذي تشتهيه الصبية في أعماقي أكثر من أن تجدل لها شعرها الليلي المتناثر على قارات العالم... وتزرع في أعماقه وردة بيضاء.
ما الذي تتمناه العاشقة الطالعة على الدنيا أكثر من عاشق تهرب من عينيه إلى عينيه، ومن يده اليمنى إلى يده اليسرى، ومن قلبه إلى قلبه، ومن عقله إلى عقله، ومن حاضره إلى الذاكرة، ومن الخاصرة إلى الخاصرة.
ترى هل يتبلل الصغار بماء العشق؟
وهل تفتح لهم نوافذ الجنون فيقطفون الورد المعربش على بوابات القلب...
هاربين من الوله الذي يستوطن ضفة العينين
في ليل المدن الملون بنفايات الحضارة
وفي الفجر الرمادي اليتيم...
من دونك... من أنا؟
عين ضيعت أهدابها...
وقرنفلة تبحث عن رائحتها...
وغابة احترقت أشجارها
وأنثى تبحث عن كتف رجل تتكئ عليه.
استحضرك في ذاكرتي مبللاً كالبنفسج...
وأمارس طقوس عشقي الأبدي لك
فيتساقط ذهب الشمس من صوتك...
ويعلو صوت البلابل... ويتحول الفجر الأناني إلى لوحة ألوان، ومعرض أزهار
وكأن العمر في بداياته الأولى، ألملمه كي أعلن انتصاري على النهار...
استحضرك لأنك الملح الذي يحفظ ذاكرتي من التعفن... ويحفظ تاريخي من الاندثار
أنا من غيرك مجرد إشاعة...
وأنا من غيرك كذبة كبيرة تبثها صحف الصباح...
وأنا من غيرك لغة من غير حروف
وأنا من غيرك بحر تخلّى عن معطفه الأزرق...
فشكراً لك لأنك أعطيت لليل عينيك، وتركتني أتجول فيهما، فمساحة عينيك غطّت ليل الغربة...
شكراً... فتراثك العاطفي المخزون تحت جلدي، يشعل حطب الذاكرة فيدفئني، وأنا أواجه صقيع المستشفى... ويعطيني مفاتيح الأمان، وأنا أواجه الأطباء.
في هذه القارة المترامية الأطراف، والمتعددة الأجناس والأديان، والمعتقدات، والألوان، واللهجات دخل الإنسان فيها ماراثون تحطيم الرقم القياسي للسرعة، واخترت أنا فيها مكاناً قصياً كل ما حولي مرسوم بالأخضر... إلاّ أنني أشعر بالتصحر كأنني أعيش فوق بحر شديد الملوحة...
فكيف أشجر صحراء نفسي وقد أكلني الملح؟
ملوحة الأسئلة... وملوحة القلق... وملوحة البعد...
أعود للمكان المصبوغ بالبياض، القلوب البيضاء، والأسرة البيضاء... والحيطان البيضاء، وعيون الرحمة والمودة التي تعانق وجعي... وتحاول تخضير ساعات يومي، وقتل ساعات ليلي.
ما أعظم الإنسان عندما يكون إنساناً..
هذا هو سر التفوق.



* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن»

الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

المشكلة في الأنوثة


كلمات / المشكلة في الأنوثة

بقلم: | د. سعاد الصباح |



المشكلة الأولى في نظري، هي في الأنوثة ذاتها. فالأنوثة، هي حكم صادر على المرأة عند ولادتها مباشرة، وهو حكم نهائي وقاطع غير قابل للنقض، أو للاستئناف، أو التمييز.
هذا الحكم الذي لا مثيل له في تاريخ الإرهاب العالمي، يصنف المرأة فوراً في مرتبة مواطني الدرجة الثانية، كما كان يحدث في القانون الروماني، ويفرض عليها الجزية الجسدية والفكرية، كما يفرض عليها الطاعة والامتثال للسيّ.د، سواء كان هذا السيّ.د أباً، أو شقيقاً، أو ولداً... أو مجتمعاً... أو تقليداً أخذ شكل القانون.
الأنوثة في عين المجتمعات العربية... تُهْمةٌ لابدَّ من تكذيبها... وفضيحةٌ لابدَّ من إنكارها... وعارٌ لابدَّ من غسله...
فالأنوثة في المجتمعات العربية تعني الضعف، والهشَاشَة، وسرعة العطب... والتخلّف الذهني.
فالنساء لدينا... إمّا «قاروراتٌ قابلاتٌ للكَسْر»... وإما أسماك للزينة نتفرج عليهن من وراء زجاج أكواريوم.
والمرأة لدينا حالة سلبية... فهي تسْتهل.كُ ولا تُنتج... وتأخذ ولا تعطي... وتتلقى كلمات الغزل ولا تستطيع أن تغازل رجلاً... وتستلم رسائل الحب ولا تستطيع أن تكاتب أحداً... وتقرأ إبداعَ الرجال ولكنها لا تبدع... وتطرب لما يقول الشعراء ولا يسمح لها بأن تكون شاعرة... وتنجب عشرة أطفال من زوجها من دون أن تحدّق في وجهه أو ترى لون عينيه.
ولا يمكن فعْلُ أيّ شيء، في اعتقادي، إذا لم يُلْغَ الحكم التاريخي الصادر بحقّ المرأة غيابياً... وتستعيد حقوقها المدنية، وعقلها المصادر... وأملاكها المنقولة وغير المنقولة... باعتبارها لم تبلغ سن الرشد.
وها قد مرّت آلاف السنين، ولا يزال القضاة في مكانهم، والشهود في مكانهم... ووزارات العدل في مكانها... ولا تزال المرأة العربية تطالب برفع «الحراسة» عن عقلها وجسدها. ولا يزال القضاة يقولون لها كلما راجعتهم: عودي بعد ألف سنة... لأنك لم تبلغي سن الرشد... بعد.
إنني أعتقد أن هناك خللاً أساسياً في المعادلة الاجتماعية... ومادام المنطق العام مازال يعتبر الأنوثة غلطة كبرى، أو لعنة كبرى، أو جريمةً كبرى، فلا أمل في تصحيح أي شيء.
وما يهمني ككاتبة عربية من الخليج، أن تتصحح صورة المرأة الكاتبة في أنظار رجال القبيلة.. وأن يفهموا أن الكلام ليس امتيازاً للرجال وحدهم، وأن لدى المرأة جهازاً عصبياً مثل أجهزتهم العصبية، ودماغاً يشتغل كأدمغتهم... ومشاعر بشريّة كمشاعرهم... وأصابع تعرف كيف تكتبُ بها... وتخد.شُ بها... وتدافع بها عن نفسها عند اللزوم.
إن الكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغان بروايتها الأولى «مرحباً أيها الحزن» استطاعت أن تخرب الدنيا.
وحيث نشرت الكاتبة اللبنانية ليلى بعلبكي في الخمسينات روايتيها «أنا أحيا» و«سفينة حنان إلى القمر»... خربوا بيتها... وجرجروها إلى المحاكم.
إنني أذكر هاتين التجربتين الفرنسية واللبنانية، لأثبت أن الرجال العرب يتصرفون «كقبضايات» أو «كفُتُوَّات» الأحياء القديمة، الذين إذا رأوا فتاةً تأخذ صباحاً سيارة المدرسة... يغمى عليهم...
وأنا في تجربتي الشعرية «فتافيت امرأة» لاحقني غبار «الطوز»... وسيوفُ الانكشاريين، وعيونُ أسماك الق.رْش... في كلّ مكان... واعتبرني رجال القبيلة خارجة عن بيت الطاعة.
إذاً فبيتُ الطاعة الثقافي لا يزال موجوداً... والأقفال، والجنازير، والسلاسل المعدنية لا تزال موجودة... وذكور القبيلة لا يزالون يرتعشون إذا رأوا فتاة تحمل حقيبة المدرسة... أو تقرأ رواية... أو ديوان شعر... وكل استفتاء عن حرية المرأة... وأنتم بخير.





* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن» 

صندوق العجائب

كلمات / صندوق العجائب

| د. سعاد الصباح |

العالم العربي صندوق عجائب كبير...
فيه سلاطين يحكمون بغير ما أمر اللّه...
وفيه وزراء يبصمون على الأوراق دون أن يروها...
وفيه عساكر مدججون بالأوسمة دون أن يربحوا معركة واحدة...
وفيه كتاب مرشحون لجائزة نوبل... وليس لهم مؤلف واحد... وفيه حاشية تمتص كالعلق دم الناس...
وفيه أيدلوجيات تباع وتشترى في سوق الملابس المستعملة.
وفيه رجال دين يتاجرون بكلام اللّه، ويستوردون عمائمهم من «فالنتينو»...
وفيه جرائد ومجلات أكثر من الهمّ على القلب، إذا عصرتها بعصارة لا ينزل منها قطرة حقيقية...
وفيه شعراء يشحذون على البحر الطويل... وآخرون يشحذون على بحر الرجز... وآخرون يكتبون قصائدهم بالخط الكوفي على برميل نفط...
وفيه بطل واحد... وأربعة وأربعون حرامياً...
وفيه عادل واحد... وتسعة وتسعون ظالماً...
وفيه مدرسة واحدة... وألف سجن...
وفيه عاشق واحد... وألف رجل بوليس...
وفيه قصيدة واحدة... وخمسون بلاغاً عسكرياً...
وفيه طبيب واحد... وألف دجال...
وفيه مثقف واحد... وألف مدّعي ثقافة...
وفيه نبي واحد... ومليون قاطع طريق...
وفيه وردة واحدة... وخمسة عشر ميليشيا...
وفيه حمامة واحدة... وألف بارودة صيد...
وفيه قمر واحد... وألف سيارة مفخخة...
وفيه متعبد واحد.. وعشرة آلاف تاجر سلاح..
وفيه مطرب واحد... وعشرة آلاف مسدس كاتم للصوت.
وفيه ياسمينة واحدة... وعشرة آلاف مشنقة...
العالم العربي صندوق فرجة كبير...
فيه رجال يلبسون ملابس النساء، ونساء يلبسن ملابس الرجال...
وفيه فرسان يذوبون تحت الشمس كقطعة الشكولاتة...
وفيه خيول لا تصهل...
ودبابات لا وقود فيها...
وطائرات لا تطير...
وضباط يجلسون خلال المعركة تحت السيشوار...
وفيه وزارات حرب لا تحارب...
ووزارات تخطيط لا تخطط..
ووزارات عمل لا تعمل...
ووزارات تموين ليس عندها رغيف خبز...
وإذاعات تصنع من الحبة قبّة... ومن النملة فيلاً...
ومن القطرة بحراً... ومن الهزيمة نصراً مبيناً...
العالم العربي مسرحية من مسرح اللامعقول، ليس لها سياق، ولا موضوع، ولا ينظمها منطق ولا فكرة ولا هدف.
فهناك أشخاص يدخلون إلى المسرح ولا تعرف من أين... وهناك أشخاص يأخذون دور البطولة ولا تعرف لماذا... وهناك أشخاص يتزوجون اليوم... ويطلقون بعضهم البارحة... ولا تعرف لماذا؟
وهناك أشخاص يعشقون بعضهم من الوريد إلى الوريد... ويذبحون بعضهم، بعد دقيقتين، من الوريد إلى الوريد... ولا تعرف لماذا؟
وهناك شخص يختفي في منتصف الفصل الثاني من دون سبب، وعندما تسأل عن سر اختفائه، يقول لك أحد عمال المسرح إن سيارة سوداء، ليس لها أرقام... أخذته من الباب الخلفي للمسرح... إلى بيت عمه...
ومن هو عمه؟
- إنه مباحث أمن الدولة...


* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن»

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

من ينقذ العصافير من العاصفة..?

* اللوحة بريشة: سعاد الصباح

بقلم:| د. سعاد الصباح |


الأطفال كالأشجار...
نعتني بهم، فتخضرُّ أوراقهم، وتكتظ أغصانهم بأطيب الثمار، ويملأون بيادر الوطن بالحنطة، والخير، والفرح...
ونتخلى عنهم، فتتساقط أوراقهم، وتيبس أغصانهم وثمارهم... وتتحول مواهبهم إلى ألواح خشبية... وتتحوّل عيونهم إلى عيون من حجر.
إن الطفل العربي هو الاستثمار الرابح الوحيد، في حين أن بقية استثماراتنا قابلة للربح والخسارة.
الطفل العربي هو آخر حصان جميل نراهن عليه... فإذا خسر هذا الحصان، فإن سلالة الخيول العربية كلها سوف تنقرض.
قد يكون كلامي جارحاً بعض الشيء، ولكنني أكتب ما أكتبه، لأنني ألاحظ أن الأطفال العرب يعيشون في مناخ ملوث، صحياً، وثقافياً، واجتماعياً، وقومياً... وأنهم ضائعون، ومكسورون جسدياً ونفسياً... ومهتزون كشجيرات من القصب تعصف بها الريح.
إنني أشعر بأنهم يتامى مع أن آباءهم موجودون... وأشعر بأنهم متخلفون عقلياً... مع أنهم يذهبون إلى المدرسة... وأشعر بأنهم مكتئبون رغم الألعاب التي يحصلون عليها... وأشعر بأنهم لا يجدون الدليل، والموجّ.ه، والمرشد الذي يدلّهم على الطريق، وبأنهم يتخبطون في المجهول، كما يتخبط مركب ليس له قائد... ولا بوصلة.
وفي العصر الذي تتضخم فيه عبادة الذات، وعقد الأنانية، والفردية... لم يعد لدى الإنسان وقت يمارس فيه أبوته... أو أمومته... أو يمارس فيه غريزة الحنان.
إنه عصر تصلب الشرايين، وتصلب العواطف، وتصلب المشاعر الإنسانية من الدرجة الأولى.
حتى القبلات التي كنا نطبعها على خدود أطفالنا قبل ذهابهم إلى المدرسة نسيناها... حتى وجبات الطعام التي كنا نتناولها معهم في البيت... ألغيناها... إننا الآن نعطيهم المصروف المدرسي... ونقول لهم «دبّروا حالكم».
فهل دخلنا مع أولادنا مرحلة «فك الارتباط»... فأصبحوا يزوروننا كباقي الزوار... وينامون في المنزل كما ينامون في الفندق؟
هل توقف الكلام بيننا وبين أولادنا وانكسر الحوار؟ هل أصبحت غرف البيت مجموعة من الكانتونات، كل كانتون له شخصيته، وسيادته، وأفكاره... وميزانيته الخاصة؟
شيء مرعب، هذا الذي يحدث في العائلة العربية. فمن هو المسؤول عن هذا التشرذم، والتفكك، ودخول القلب العربي إلى الثلاجة؟
من المسؤول عن هذا العصر الجليدي الذي دخلنا فيه، فلا كلمة حب... ولا همسة شوق... ولا لمسة حنان؟
هل صارت الأمومة والأبوة ألقاباً رسمية... كألقاب الباشا، والبيك والأفندي، والآغا... موجودة في سجلات الأحوال المدنية فقط؟
هل هي أوروبا التي نقلت إلينا جبالها الجليدية، وثلوجها الشمالية، وبلادتها العاطفية؟ أم أن العالم كله صار بلا قلب... وصارت العواطف الإنسانية تباع في السوبر ماركت مع زجاجات الحليب، والأطعمة المثلجة؟
هل انتقلت إلينا هذه المجاعة العـــاطفية الرهيبة... فأصبحنا نبحث عن رغيف الحب فلا نجده... وعن طعم الحنان فلا نعثر عليه؟
أتصور أن المسؤولية في هذا ذات شقين: الشق الخارجي المتعلق بطبيعة العصر الحديث. هذا العصر الذي جعلته الثورة الصناعية كائناً ميكانيكياً صرفاً. فجرّدت عواطفه، وألغت قيمه الروحية، وجعلت الإنسان الغربي جزءاً من الآلة التي يعمل عليها.
والشق الثاني إقليمي، ويتعلّق بطبيعة العصر العربي.
فهذا العصر، كما نلاحظ جميعاً، هو عصر الانفراط، والتمزق، والشتات العربي، سواء على الصعيد السياسي، أو على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، حيث سقطت قيم أخلاقية واجتماعية وأدبية كانت جزءاً لا يتجزأ من التراث العربي والشخصية العربية.
وقد كان من الطبيعي أن ينعكس هذا التفكك القومي على الوضع الاجتماعي والعائلي، بحيث لم يعد أمام الأطفال أي جدار نفسي يستندون إليه... وأي منارة قومية أو ثقافية أو تعليمية يسترشدون بها في هذا الظلام الدامس.
إن الفكر الفئوي والطائفي والمذهبي أصبح سيّد الموقف... ولم يعد بإمكان الآباء والمعلّمين والمربّين أن يقدموا لأولادهم، وتلاميذهم أفكاراً تتناقض تناقضاً جذرياً مع ما يرونه على أرض الواقع.
حتى اللغة العربية دخلت في المأزق... فالعائلات العربية الكثيرة التي اضطرت تحت الضغوط الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية أن تغادر أرض الوطن... حملت معها مأزق اللغة... لأن وجود أطفالها لسنين طويلة خارج حدود اللغة العربية، سيجعلهم أشبه بالمستشرقين الذين يتكلمون اللغة العربية باللهجة الأرمنية.
بالإضافة إلى أن الأطفال العرب الذين يولدون في المنفى، أو يترعرعون في المنفى، سيكونون مستلبين، وغرباء عن قضاياهم القومية... بل سيكونون بلا انتماء حقيقي إلى أي مكان.
وربما كان مأزق الانتماء هو أخطر المآزق التي يواجهها الأطفال والشباب العرب... الذين وجدوا أنفسهم في بيئات غير بيئاتهم... وأمام لغاتٍ غير لغاتهم... وعادات غير عاداتهم.
هذا هو المأزق الكبير في نظري، بل هذه هي التراجيديا القومية واللغوية التي تواجهها الأجيال العربية القادمة...
فما الطريقة التي تنقذ بها هذه الأجيال من الضياع؟
وما المخطط الذي يكفل حماية هذه العصافير العربية الصغيرة من الوقوع في أسنان العاصفة؟
إنني أقرع جرس الخطر، لأنني أعتبر أن الأطفال العرب هم العمود الفقري للمستقبل العربي كله. فإذا تخلينا عنهم، وتجاهلنا مشاكلهم الجسدية والعقلية، والثقافية، والقومية، سقطوا هم، وأسقطوا الهيكل معهم.
صحيح أن مشاكل العالم العربي كثيرة ومتشابكة، وصحيح أن المشاكل السياسية تطغى على كل المشاكل الأخرى، ولكن المشاكل السياسية تبقى مشاكل عابرة وموسمية ومزاجية، أما مشاكل الطفولة فتأتي على رأس الأولويات، لأنها الحجر الأساسي في عمارة الوطن.
إن الطفل العربي هو الذي سيرسم صورة الرجل العربي القادم، وهو الذي سيحدد ملامح المستقبل. فإذا فشلنا في ضخّ دم الوطنية، والانتماء، والعلم، وحب المعرفة، وروح الاكتشاف والإبداع، والارتباط بالقيم الروحية، وبالأرض وبالتراث، في هذا الجيل، فإن الأجيال القادمة ستكون أجيالاً غير منتمية لأي زمان... وأي مكان... وغريبة عن الوطن والتاريخ... وضائعة في مهب الريح كالطائرات المصنوعة من الورق.
الطفولة هي رأسمالنا الباقي، فإما أن نربح الجائزة الكبرى، وننقذ آخر ما تبقى من أشجار الوطن الخضراء... وإما أن نفشل، فتحترق الغابة بكل ما فيها من شجر وعصافير... ونحترق معها.




* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن»..

الاثنين، 24 سبتمبر 2012

كيمياء البشر




 د. سعاد الصباح |

أكتشف نفسي... أكتشف كيمياء البشر

أسمِّي الأسماء بأسمائها
أرفض أن أبقى مسالمة كوردة أو كعصفور يقتل
أحمل اسمي على ظهري وأرحل
أصنع من الحاضر شمساً... وأستعير أقدام المستحيل
فالعالم لا ينتظر من لا يأتي
فالحجر يظل حجراً لا يتحرك
والأملُ إذا لم يظلله التفاؤل يقتله اليأس
أتوسدُ صدرَ الليل وأنامُ خفيةً في عيون قمر لا يأتي
وأترك هواجسي عند أقدام الصباح
ألملم نفسي أسافر من غير موعد
فلا زمان ينتظرني.. ولا مكان يستقبلني
أبعثر الزمن... وأركب صهوة السحاب، وأعيش في ذاكرة الرياح
أمحو الماضي... أقتلع الجذور... وأفتح دروباً كالسراب تلهث وراءَها العقول
أعجن هذا العصر الهلامي، وأنثره على سواحل النسيان
أضحك وأبكي من هذا الزمن الرملي
وأدخل في شريان المستقبل أوقد شمعتي
أنتظر سقوط شلال الدهشة من عالم آخر
وأبقى سجانةً وسجينةً داخل نفسي
كلُ شرايين هذا العصر مقفلة... مبعثرة ولا شيء يجمعها غير الخرافة
أستأصل الوجع... أغسل عقلي مما ترسب به من مخلفات
أفتح نوافذ الاجتهاد، أحافظ على داخلي نظيفاً وبريئاً كطفل
أقطع صلتي بمن قبلي وأحيا مع نفسي
أخترق حاجزَ الزمان والمكان
أتخذ من ابتسامة أحفادي أوراقاً أكتب عليها
ومن براءة عيونهم حبراً... ومن حكاياتهم ثوباً أرتديه
أغسل نفسي في ضوء براءتهم
وألملم دموعهم ورقاً كي أسجل عليه جنتي وجحيمي
أخترع شيطاناً وملاكاً وأدخل معهما في سباق لا ينتهي
للأرض أجنحة كما للعصفور
وللسماء دموع كما للأطفال
ولنفسي هواها... وللماضي ذاكرة غبية
أسجن السماء في قبضتي، وأطلق سراحَ الأرض
كي أجعل العالم يركب موجةَ المدنية
ويرحلَ بعيداً على عيون الجاهلية الجديدة
يمتزج دمُ التاريخ بدمي
تصرخ أوراقي تعلنُ عصيانَها... وأنا أنسج ثوباً مائياً كي تلبسه مدنُ الغبار
الدم طازج على دفاتري... ولعنات أهل الكهف تتبعني... وآهات أمي وأبي
أقتل وطن الخوف في داخلي...
وأخترع وطناً جديداً لا يسيجه الضيَاع... ولا تلفه الحيرة... ولا يسكنه الرعب ولا يمشي إلى الهاوية... له قامة السحاب... وامتداد الأفق...
على عجل أنا... والوطن يتبعني ناشراً أسراره بين عيني
فاتحاً جرحاً نازفاً حاملاً الزمن الرمادي على نقالة الموتى... حارقاً التاريخ وكتب الغبار
أحطم في داخلي الآلهة التي صنعتها والتي أخذت شكل الوثن
أمزق كل نص يربطني بالجاهلية الجديدة... وأنزع من جلدي وشم القبيلة النائم في سكينة الموتى
تجذبني نحو ساحل الموتى... وأنا
أفر نقية إلى حقول المعرفة من رماد أيامنا الماضية
وألمح بين أسوار السجن وأسوار المنفى خريفاً تتساقط أوراقهُ فوق جراحنا
ما من شجرة أو جدول أو وردة ما تعذبت...
عقولنا آنية يثقبها الرعب... وجرح تناثر عليه الملح... وصحراءُ بلا شجرة أو نبع ماء
وجبالُ يسكنها الشوك، والشك.



* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن» 

الأحد، 23 سبتمبر 2012

عن القهوة.. والمقاهي


بقلم: | د. سعاد الصباح |




القهوة هي أهم اختراعات الإنسان.
والذي اخترعها هو بغير شك مصلح اجتماعي عظيم...
فبغير القهوة، لم تكن المقاهي، وبغير المقاهي لم يكن الحوار ممكناً، وبغير الحوار كان الإنسان جزيرة معزولة عمّا حولها.
وبصرف النظر عن كل ما يقال عن مضار القهوة، وما تسببه من قلق وتنبيه لأعصاب الإنسان، فإن فضائلها أكثر بكثير من مساوئها.
ففي تاريخ الأدب لعب المقهى دوراً مرموقاً في تجميع الأدباء، والشعراء، والفنانين، والمفكرين، حتى تحوّل المقهى إلى أكاديمية ثقافية.
وكلنا يذكر كيف كان مقهى (الفلور) في حي سان جيرمان في باريس، المكان التاريخي الذي انطلقت منه الحركة الوجودية، بممثليها الكبيرين جان بول سارتر وصديقته سيمون دو بوفوار.
ومقهى (الفيشاوي) ومقهى (ريش) في القاهرة، ومقهى (البرازيل) في دمشق، ومقهى (الهورس شو) في بيروت... كانت صروحاً ثقافية تَخرّج منها كبار أدبائنا وشعرائنا ومفكّرينا.
إن عالم (المقاهي) عالم عجائبي حقاً، فمن أراد أن يتكلم في السياسة يجد في المقهى مبتغاه... ومن أراد أن يتكلم في الأدب يجد في المقهى مبتغاه... ومن أراد أن يتكلم مع نفسه، فإن المقهى يؤمن له هذا الحوار الداخلي... ومن أراد أن يهرب من مشكلة تلاحقه فإن المقهى يمنحه حق اللجوء السياسي.
أما العشاق فإنهم يجدون في المقهى ملجأهم وخيمتهم، فعلى فنجاني قهوة يطيب الهمس، وتحلو النجوى، وتنهمر الاعترافات كقطرات المطر، فكأن نكهة البنّ العابقة من فنجان (الإكسبرسو) تردّ إلى الحب اعتباره، وتعطيه شرعيته.
كل شيء يمكن أن يحدث في المقهى، ابتداءً من الانقلاب العسكري، إلى الخطبة... إلى الزواج... إلى تأليف الوزارات... إلى التنظيرات الأيديولوجية والثقافية.
إن الذي اخترع المقهى... لا يقل في عبقريته عمن اخترع الراديو، والتلفزيون، والتلفون، والتلكس، والفاكسميل، والكمبيوتر، والأقمار الصناعية... والمؤسسات الصحافية.
فالمقهى، نقل أخبار الناس، وأفكارهم، ومذاهبهم الأدبية والفنية قبل أن تكون وسائل الاتصالات الأخرى قد وجدت بعد.


* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن» 

انتصارات الإنسان


| د. سعاد الصباح |

عندما بدأت الانفجارات تتلاحق في دول المنظومة الشيوعية، هل كانت تعني انتصار النظام الرأسمالي على النظام التوتاليتاري؟
الأمر، ليس بهذه البساطة.
فلا حلف شمال الأطلسي هو الذي ربح الجولة على حلف وارسو... ولا جورج بوش « الرئيس الأميركي الأسبق» هو الذي انتصر بالنقاط على ميخائيل غورباتشوف.
المنتصر الأكبر في تلك المعركة هو الإنسان... بما هو قيمة، وطموح، ونزوع إلى الحرية.
وإذا كان الغرب يبدو سعيداً بتلك التحوّلات المتلاحقة التي تجرى وراء الستار الحديدي، وإذا كان يهيئ نفسه لقطف ثمار (ربيع براغ) أو (ربيع برلين)، فإن تلك التحوّلات التاريخية ليست دليلاً على أن النظام الرأسمالي نظام نموذجي، وصحّي، وأنه معصوم من الهزات والنكسات.
وإذا كانت الحروب الاستعمارية قد أفل نجمها مع القرن التاسع عشر، فإن الحروب الاقتصادية التي يشنها الغرب على الدول الجائعة، والعارية، والعاجزة عن تسديد ديونها، لا تحتاج إلى منجم مغربي، فالضغوط التي يمارسها صندوق النقد الدولي على الدول الإفريقية والآسيوية المدينة، هي أشبه بهراوة رجل البوليس.
إذاً فالنظام الرأسمالي ليس نظاماً سماوياً ولا نصف سماوي، بل هو نظام يحكمه الجشع، والابتزاز، واحتكار ثروات العالم.
لذلك فنحن لا نستبعد أن تكون (الانتفاضة) الثانية... هي انتفاضة الإنسان في أوروبا الغربية على حكم المافيات الاحتكارية، وشبكات المضاربين، وتجار الأسلحة، ومهربي المخدرات.
قد يكون الإنسان في الغرب، يمتلك نوعاً من الحرية النسبية لا يملكها الإنسان في المنظومة الاشتراكية، كحرية التعبير، وحرية التملك، وحرية السفر، وحرية التظاهر، والإضراب، ولكن الإنسان الغربي رغم كل هذه الحريات الصغيرة التي يتمتع بها، يبقى خائفاً كالسمكة الصغيرة في بحر تملأه حيتان الصفقات والعمولات والمخدرات التي لا تشبع.
* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن» 

حلم ليلة صيف


| د. سعاد الصباح |

للمرة الأولى - يقرر قادة الأمة العربية في مؤتمر القمة الاستثنائي الذي عقدوه، أن (يكونوا عرباً) بكل ما تعنيه كلمة العربي من رجولة، وشجاعة واقتحام.
وللمرة الأولى، يتخلون عن بلاغتهم التقليدية، وتشابيههم، واستعاراتهم ويخاطبون العالم باللغة التي يفهمها... بعد أن ثبت لهم، أن لغة بديع الزمان الهمذاني، والجاحظ، ومقامات الحريري، لن توصلهم إلى أي مكان...
وربما، للمرة الأولى في تاريخهم الحديث، يتخلص العرب من عقدة الخوف الأميركية أو بتعبير أكثر دقة، من عقدة الانبطاح الأميركية ويبصقون الحصاة في وجه الكونغرس الأميركي، فحملته المسؤولية الكاملة عن الوقوف وراء إسرائيل منذ ولادتها في 15أيار (مايو) عام 1948، وإغراقها بالمال والسلاح والمساعدات الاقتصادية حتى أسنانها، بحيث تستطيع أن تهزم العرب مجتمعين... وأن تبيد الشعب الفلسطيني كخطوة أولى، والانقضاض على الشعب العربي كخطوة ثانية.
لقد أصبحت الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي هي محامي الشيطان الذي يقلب الحق إلى باطل، والباطل إلى حق. حتى أصبح استعمال «الفيتو» من حقوق الشعب العربي الفلسطيني عادة أميركية يومية.
ولو لم يكن لمؤتمر القمة، سوى إنجاز واحد، هو إسقاط ورقة التين عن جسد الإدارة الأميركية، لكفى...
إن تسمية الأشياء بأسمائها، كان لابدّ منها، لوضع حدّ لهذا التداخل العضوي بين جسدين هما في الحقيقة جسد واحد... ولفصل هذا التوأم الإمبريالي الملتصق، الذي نصفه إسرائيلي... ونصفه أميركي...
لقد تأخر العرب كثيراً في إجراء هذه الجراحة الضرورية لفصل الوجه عن القناع، ولجأوا طويلاً إلى الأدوية الخارجية، والمسكّنات الدبلوماسية دون جدوى...
وها هم الأطباء العرب، وبعد «كونسولتوطبي»، يقررون أن يستعملوا المشرط، لاستخراج الطرْح من بطن الولايات المتحدة الأميركية...
ولكنني سألقي الضوء على بعض النقاط المهمة والجديدة في هذه المقررات:
أولاً: استطاع المؤتمر، أن يضع ميزاناً دقيقاً يحكم علاقات الدول العربية بالعالم، رابطاً إياها بمواقف الدول الأجنبية من القضية الفلسطينية، ومن مسألة الهجرة اليهودية.
وهكذا لم يعد هناك محل للعواطف، والمجاملات، والرومانسية السياسية على حساب القضايا العربية الكبرى.
فمن يختار جانب إسرائيل، ويصوّت معها في المحافل الدولية، ويقويها بالمساعدات المالية والاقتصادية والتكنولوجية، فإن عليه أن يعرف مسبقاً أن أبواب العالم العربي كله سوف تكون موصدة في وجهه.
وهكذا، فإن الدول العربية مجتمعة، ستكون قادرة على تطبيق مبدأ الثواب والعقاب، مع كل دولة تفكر في اختراق أمنها القومي، واللعب على حبال الازدواجية.
ثانياً: ومن أجمل وأعمق النصوص في البيان الختامي للمؤتمر، هو ذلك النص الخاص بحق الشعب العربي، غير القابل للتصرف في التنمية الشاملة، واستخدام منجزات العلم والتكنولوجيا لصالح المواطن العربي والإنسانية جمعاء.
لقد أدرك المجتمعون، أن التحدي الأكبر الذي تواجهه الأمة العربية، هو تحدٍ علمي وحضاري لكسب رهان المستقبل، والإسهام الفاعل في إغناء الحضارة الإنسانية.
فالعقل الاستعماري، يريد أن يحتكر لنفسه كل مصادر المعرفة، ويترك شعوب العالم الأخرى، في حالة جهل وتخلف.
إن العقل العربي، في نظر الغربيين الجدد، ممنوع من الإبداع، وممنوع من الخلق، وممنوع من دخول القرن الحادي والعشرين، وهو مسلح بكل المعارف الكونية التي تسمح له بالمشاركة في صنع المستقبل.
ثالثاً: وإذا كان الأمن القومي العربي هو المفصل الرئيسي الذي تحرك حوله مؤتمر القمة، فإن قادة الدول العربية أدركوا، أن النار التي تقترب من البيت العربي، تهدد الحيّ العربي بأكمله، بل تهدد التاريخ العربي، والجنس العربي، والأجيال العربية القادمة بلا استثناء.
ولأن الخطر الذي يحاصر الأمة العربية، ليس خطراً قطرياً، أو فردياً، أو عائلياً، فقد اعتبر المؤتمرون أن الأمن القومي العربي هو سلسلة متداخلة لا تتجزأ ولا تنفصم، وأن انكسار إحدى حلقات السلسلة، يعني انفراط كل أجزائها...
وبعد... وبعد...
فقد دخل العرب إلى المؤتمر، وهم يتكلمون إحدى وعشرين لغة... ويتحدثون بإحدى وعشرين لهجة... ثم خرجوا وهم يتكلمون لغة واحدة... ولهجة واحدة.
دخلوا... وهم يحملون إحدى وعشرين سنبلة... وخرجوا وهم حقل لا نهائي من الحنطة.
دخلوا... وهم متفرقون كالأمواج، ومتناثرون كالزبد... وخرجوا وفي أصواتهم هدير البحر، وغضب المحيط الكبير...
دخلوا... وهم يلبسون إحدى وعشرين عباءة... وخرجوا وهم يلبسون عباءة واحدة من القصب نقشت عليها أسماء اللّه الحسنى.. وشعارات الوطن العربي الكبير.
فقد اقتنع حكماء العرب أن الحكمة دائماً ليست أفضل الطرق لدخول الجنة... وأن النظرية التي تقول إن قوة العرب في ضعفهم هي نظرية سخيفة... وانهزامية... وأن العالم، منذ أن كان العالم، لا يحترم إلا القادرين، والأقوياء، والشجعان، الذين يضعون أرواحهم على أكفهم... ويضربون بقبضاتهم نوافذ المستحيل.
استيقظت من نومي... وإذ به حلم ليلة صيف.
* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن» 

عربة الحرية


| د. سعاد الصباح |

كان التاريخ يتحرك في «الاتحاد السوفياتي» السابق، وفي دول أوروبا الشرقية بسرعة مذهلة، وبشكل لم يكن يتوقعه التاريخيون أنفسهم.
والحقيقة أن الذي يتحرك هو عربة الحرية، التي بدأت تتدحرج بشكل متسارع، ولم يعد بوسع أي سلطة لجمها، أو أن تقف في طريقها.
فالنظرية الماركسية التي كانت تبدو وكأنها اليوتوبيا المثالية والجنة الموعودة للمعذبين في الأرض، بدأت تشهر إفلاسها، وأضاع ماركس مركز القداسة الذي أشغله قرابة سبعين عاماً.
لقد نادت الماركسية بسعادة الإنسان، ولكنها لم تسعده، ونادت برفع مستواه لكنها أبقته حيث هو، ونادت بحل قضاياه الغذائية والاقتصادية والإنمائية والثقافية، ولكنها لم تحل له أية قضية... وبشّرته بأنه سيكون حراً في مجتمع حر، ولكنه ظل مقموعاً من المهد إلى اللحد.
لقد انتظر الإنسان الماركسي سبعين عاماً، حتى يجلس إلى مائدة الطعام، وعندما جلس إلى الطاولة لم يجد شيئاً يأكله... إن ما يجري في بلدان أوروبا الشرقية سببه سقوط الحلم... وإفلاس النظرية.
فالنظرية في الكتاب وفي منشورات الحزب شيء، وهي في المزارع والمصانع والشوارع الخلفية شيء آخر.
وربما كان سبب مقتل الماركسية هو أنها اهتمت بالنظرية، ولم تهتم بتطبيقاتها البشرية، انشغلت بالنصر، ولم تدخل إلى المختبر، تصورت شكل الإنسان القادم ونسيت شكل الإنسان الحاضر.
هذا الدرس القادم إلينا من بلدان أوروبا الشرقية، هل قرأناه نحن العرب جيداً، وهل استوعبنا مضامينه؟ أم أننا كالعادة ضد أنواع الكتب، وعلى رأسها كتاب التاريخ. هل أدركنا أن قطار الحرية قد انطلق من محطته ولا سبيل لإيقافه لا بالسلاح ولا بوضع الحجارة على قضبان السكة الحديدية؟
هل أدركنا أن الحرية هي الحل الوحيد لكل ما يعانيه العرب من هزائم، وانهيارات، وشرذمة وتفكك؟
هل أدركنا أن الإنسان هو العمود الفقري الذي يحمل على كتفيه هذه الكرة الأرضية، وأن حرية الإنسان هي كالطاقة الشمسية لا يمكن لأحد أن يحجبها أو يمنعها من الإضاءة والانتشار؟


* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن» 

مصر.. بيتنا الكبير

| د. سعاد الصباح |

هنا نحن مرةً أخرى في بيتنا الكبير مصر...
وحين أقول بيتنا الكبير، فإنني أعني ذلك الشعور بالأمان، والدفء والطمأنينة الذي يشعره كل طفل عندما يعود إلى بيته.
والطمأنينة التي نحسّها عندما نجيء إلى هنا، هي طمأنينة من نوع آخر.
إنها طمأنينة قومية، أو طمأنينة ثقافية... أو طمأنينة مستقبلية... أو طمأنينة مصيرية.
نعم... هنا نشعر أننا مطمئنون على ثقافتنا، ومطمئنون على لغتنا... ومطمئنون على قوميتنا... ومطمئنون على عروبتنا.
إن الشعراء العرب لا يأتون إلى هنا ليلقوا قصائدهم فقط.
ولكنهم يجيئون إلى هنا ليأخذوا المادة الأساسية التي يصنعون منها قصائدهم... وهي مادة العروبة، والنخوة، والكرامة.
نعم... نحن نجيء إلى هنا لنتعلم... وما أكثر الدروس التي نتعلمها.
إننا نتعمد هنا بماء العروبة.
ونأخذ من الغذاء القومي ما يكفينا لنتغذى عاماً كاملاً...
إن معرض الكتاب ليس حادثاً أدبياً... أو ثقافياً... أو شعرياً كما تتصورون.
بالنسبة لنا حادث قومي عظيم... بل لعله الحادث القومي الوحيد الذي بقى من مفاخر العرب.
لقد كنا نأمل أن تجمعنا جامعة الدول العربية... ولكن يبدو أن القاهرة هي التي أصبحت توحد العرب ثقافياً وسياسياً... بعد أن فشلت كل المؤسسات في توحيد العرب.
* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن»

وحش جميل.. اسمه الكمبيوتر!!




 د. سعاد الصباح |

صار الكمبيوتر في هذا العصر جزءاً من تنفس الإنسان، وجزءاً من دورته الدموية... إنه كالساعة اليدوية، موجود في أيدي الصغار، والكبار، والمهندسين، ورجال الأعمال، وقائدي الطائرات، وملاّحي السفن، ورواد الفضاء.
لم يعد الكمبيوتر قطعة كمالية في حياتنا، بل صار جزءاً لا يتجزأ من أثاث المكاتب والبيوت... كالثلاجة... والغسالة الكهربائية... والتلفون... وجهاز التكييف.
فإلى أي مصرف، أو شركة تجارية، أو شركة طيران، أو جامعة، أو مدرسة، أو روضة أطفال، أو سوبرماركت دخلت... وجدت الكمبيوتر بانتظارك ليحل لك بكبسة زر خفيفة... كل مشاكلك بثانية.
إنه يختصر الوقت، ويختصر الجهد الإنساني، ويختصر المسافات، ويختصر ألوف السنين ببضع دقائق.
وبكلمة واحدة إنه فتاة من فتيات (الجيشا) اليابانيات، ينزعن عنك ثيابك، ومتاعبك، وهواجسك، ويغطسنك في حوض من المياه المعطرة، ويتولين إدارة أعمالك بالنيابة عنك.
طبعاً... هناك كثيرون مأخوذون بهذا الجهاز الياباني الخرافي، الذي يضع كل المعلومات الإنسانية بين يديك، ويجعلك تستلقي على الأرائك الحريرية، وتأكل العنب البارد من أصابع فتيات (الجيشا) كأنك هارون الرشيد.
أمّا أنا فلست كمبيوترية الهوى، ولا أعتقد أن الكمبيوتر مع المدى الطويل سيكون في مصلحة الإنسان... بل أذهب إلى أبعد من هذا فأقول إن الكمبيوتر سيقتل ذات يوم خالقه.
إن العلماء الذين اخترعوا الكمبيوتر لا يدرون، وهم في ذروة حماستهم وغرورهم، أنهم اخترعوا منافساً وعدواً لدوداً لهم، ومع الزمن، سوف يزداد ذكاء الكمبيوتر ويقل ذكاء الإنسان، وتمتلئ ذاكرة الكمبيوتر، وتفرغ ذاكرة الإنسان، ويصل الكمبيوتر إلى أعلى ذرى المعرفة، ويعود الإنسان إلى مرحلة الأمية.
والنتيجة الطبيعية من هذا الصراع المصيري على امتلاك المعرفة أن عقل الإنسان سوف يصدأ لقلة الاستعمال... وعقل الكمبيوتر سيتوهج ويزدهر لكثرة الممارسة... وعندئذ لا يبقى أمام الإنسان سوى أن يستقيل... أو أن ينتحر.
وأخطر ما في الكمبيوتر، أن طموحه يتجاوز منطقة الحسابات والأرقام، وتخزين المعلومات إلى منطقة الأحاسيس، والمشاعر، والرسم، والموسيقى، وكتابة الشعر. يعني أن الكمبيوتر يريد أن يلغي قلب الإنسان... ويأخذ دوره. وإذا حصل هذا، فهذا يعني أن جميع الشعراء والموسيقيين، والروائيين، والمسرحيين، والفنانين التشكيليين سيتوقفون عن الإبداع، ويصبحون عاطلين عن العمل.
أمّا العشاق، فإن حظهم لن يكون أحسن من حظ الشعراء لأن الكمبيوتر سيزاحمهم على كتابة رسائل الحب... ويسبقهم إلى مغازلة حبيباتهم، وربما يسبقهم في سرعة الزواج... وسرعة الإنجاب.
إنني لا أقص عليكم مناماً سوريالياً، أو فيلماً من أفلام الخيال العلمي، ولكنني أقول لكم إنني خائفة... خائفة... من هذا الوحش الياباني الجميل الذي بدأ يتسرب رويداً رويداً إلى بيوتنا... حتى صار أطفالنا، إذا سألناهم، ماذا تريدون بمناسبة عيد ميلادكم؟ يجبون دون تردد: Computer... Please.
ربما يخطر ببالكم أن تقولوا انني ضد الحضارة... وضد التطور، وضد الامبراطور هيروهيتو.
وأحب أن أطمئنكم أنني مع الحداثة، ولكنني أرفض بكل قوة اغتيال عقل الإنسان... واغتيال قلبه.

* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن»

الخميس، 20 سبتمبر 2012

سعاد الصديقة

                                                               
بقلم: أ· د· هدى عبد الناصر


كان أول لقاء بيننا في منزلنا في منشية البكري بالقاهرة في بداية الستينات، كانت سعاد الصباح قد حضرت وعائلتها للإقامة في وطنها الثاني مصر، في فترة كان الشعور القومي العربي فيها جارفاً وكان الإحساس العميق بأننا كلنا - المئة مليون عربي في ذلك الوقت - ننتمي إلى وطن واحد·
وبمرور الوقت أصبحت سعاد صديقة للأسرة، شاركتنا أفراحنا وأحزاننا، إلا أن ما عمّق من هذه الصداقة وأكّدها هما الحيوية والطموح اللذان كانا من سماتها، فهي سرعان ما قرّرت إكمال تعليمها الجامعي، فالتحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة - وهي الكلية التي أتشرف بالانتساب إليها - وكان ذلك موضع تقدير وإعجاب من الجميع·
وعندما تخرّجت سعاد في كلية الاقتصاد لم تكتف بشهادة البكالوريوس، ولكنها صمّمت على الالتحاق بالدراسات العليا، ثم نالت شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من إنجلترا·
إن سعاد الصباح بالنسبة إلي هي أولا الصديقة التي قاسمتنا فترة مهمة من حياتنا في مصر·
وهي ثانيا الشاعرة التي تستمد كلماتها المعبرة في قوة ورقة معاً من أعماق المرأة العربية، همومها وأحلامها وأمانيها، ممتزجة بمحدّدات بيئتها العربية، والتي نجحت في أن تُكون لنفسها نسقاً شعرياً خاصّاً·
فعبر دواوين شعرها المختلفة، أمنية، عام 1971، وإليك يا ولدي، عام 1982 وفتافيت امرأة، عام 1986، وفي البدء كانت الأنثى، عام 1988، وحوار الورد والبنادق، عام 1989، وامرأة بلا سواحل، عام 1995، قدمت سعاد لوحات شعرية متناسقة الألوان حاولت بها الخروج بالمرأة الشرقية إلى نور الحرية، وعابت فيها على الرجل تركيز اهتمامه بالمرأة الأنثى فقط، دون أن يبذل الجهد الواجب ليكتشف أبعاد إنسانيتها·
وهكذا أصبحت قصائدها رمزا جميلا من رموز القصيدة العربية، بما تحمله من أصالة وإبداع وتمرّد على المألوف من القوالب الشعرية، وبما تحمله من عفوية وتأنق معا، مما أكسبها اندماجاً فعليا بين أفكارها وواقعها المعاصر·
الوطن في شعر سعاد الصباح:
في الوطن عند سعاد يذوب الفرد في ضمير المجموع، فيسمو بمتطلباته، ويهتف بحقوقه، ويدافع عن منجزاته وعاداته وتقاليده، وماضيه وحاضره، بثت الشاعرة كل هذه المبادئ والمعاني عندما ناجت وطنها الكويت في قصيدتها (بطاقة معايدة لحبيبتي الكويت) قائلة:
هذه الأرض التي تدعى الكويت
هي عطر مبحرٌ في دمنا
ومنارات أضاءت غدنا
هي قلب آخر في قلبنا

وقد عبّر شعر سعاد عن مدى الحسرة والألم على ضياع الكويت، وكتبت قصيدة بعنوان (ثلاث برقيات عاجلة إلى وطني) بثّت فيها أحزانها، وآلامها:

يا من زرعتم في ضلوع شعبيَ الرماحْ
كيف بوسع عاشق أن يرفع السلاحْ
في وجه من يحبّهمْ
كيف بوسع العين أن تقاتل الأجفانْ

المرأة والرجل في شعر سعاد الصباح:
سعاد الصباح امرأة ذات قضية كمثيلاتها من النخبة من المثقفات العربيات، فضلاً عن كونها شاعرة أو فنانة· عتابها على الرجل الشرقي عتاب نابع من رغبتها في أن يتفهّم الرجل الشرقي عقل امرأته، هي تدعوه أن يكون صديقا قبل أن يكون حبيباً، وأن يرى فيها ذلك العقل الذي يحرّكها، فالمرأة الشرقية عند سعاد الصباح أحلامها بسيطة، احتياجاتها مشروعة، مطالبها محدودة، وقد عبّرت عن ذلك في قصيدتها (كُن صديقي):

إنني أحتاج كالأرض إلى ماء الحوارْ
فلماذا لا ترى في معصمي غير السوار
ولماذا فيك شيء من بقايا شهريار

فقصائدها تعبر عن رغبتها في إيجاد قاعدة للحوار والتواصل قائمة على الحب والتفاهم في علاقة لطرفين ليس لأحدهما فضل على الآخر، هي علاقة تأثير وتأثّر، وهذا ما وضحته سعاد الشاعرة في إحدى حواراتها الصحافية إذ قالت إنها لا تميزّ بين الرجل والمرأة ولكنها تميّز بين إنسان وإنسان، هي تهاجم التخلّف لا الرجل ولا المرأة، ومعركتها هي معركة التقدّم والتخلّص من “الأمية الحضارية”، قضيتها هي حقوق الإنسان العربي رجلاً كان أو امرأة·

أنا متعبة من ذلك العصر الذي يعتبر المرأة تمثال رخامْ
·· فتكلم حين تلقاني··
لماذا الرجل الشرقيّ ينسى حين يلقى امرأة نصف الكلام؟·
ولماذا لا يرى فيها سوى قطعة حلوى·· وزغاليل حمام··
ولماذا يقطف التفاح من أشجارها·· ثم ينام

هي أيضا تلوم المرأة العربية إذا ما أسهمت بدورها في ضياع قضيتها أمام الرجل الشرقي، تلوما إذا ما أخفقت في حل معادلة البناء الاجتماعي بينها وبين الرجل على جميع المستويات، المهنية والاجتماعية·
وهي تحثّ المرأة على العلم، فالعلم وحده هو سلاحها، فيه وحده تحقق ثروتها الحقيقة، وهو يحرّرها من قيود الاتكال على الرجل، يحرّرها من التقاليد والعادات الجامدة، “بالعلم تصبح المرأة شريكا كاملاً في الحياة”·
الشباب والطفولة في كتابات سعاد الصباح:
اهتمّت سعاد بالشباب اهتماما كبيرا، سواء في جملة اهتماماتها الأدبية، وحضورها المؤتمرات والمنتديات الشعرية والأدبية التي تضم عددا كبيرا من جيل الشباب المقدر لشعرها وفنها الإبداعي، أو في اهتمامها برعاية وتبني الإبداع الأدبي للأدباء الشبّان على مستوى الوطن العربي من خلال الجوائز المختلفة، وأهمها “جائزة الدكتورة سعاد الصباح للإبداع الفكري بين الشباب العربي”، في مجالات القصّة والدراسات الإنسانية والرواية والشعر، تلك الجائزة التي أسستها الشاعرة بالتعاون مع منتدى الفكر العربي والهيئة المصرية العامّة للكتاب بالقاهرة، ورصدت لها نحو 50 ألف دولار لتشجيع المواهب العربية الشابة·
أما الطفولة في كتابات سعاد الصباح الصحافية فهي الأرض الطيبة التي يمكن فيها زراعة كل الأحلام مستحيلة التحقيق، الطفولة عندها هي صناعة المستقبل، فالأمم والشعوب التي لا تصنع مستقبل أطفالها هي أمم وشعوب بلا مستقبل، ويؤكّد ذلك قولها في إحدى مقالاتها: “ازرع طفلاً صحيح الجسد والروح، وخُذ وطناً صحيح الجسد والروح”·
وانتقدت سعاد “التفرقة الطفولية” - على حد تعبيرها - التي تمارسها المؤسسات النقدية الدولية الكبرى ضد أطفال الدول النامية، انتقدت كذلك القمع الجنوني للطفولة في الأراضي العربية المحتلة، انتقدت الفارق الشاسع في الحقوق بين طفل الشمال وطفل الجنوب: “إنني لا أستطيع أن أكتب عن مدامعي حزنا على بعض الأطفال العرب الذين لا يعرفون ما هي الطفولة، ولم يروا في حياتهم شجرة، ولا بحراً، ولا عصفوراً”· كما قالت: “ليس من العدل أن ينام الطفل الشمالي على سرير من القطيفة، وينام الطفل الجنوبي على سرير من البكاء”·
علاقة سعاد الصباح بالاقتصاد والسياسة:
تؤكد سعاد أنه لا يوجد حاجز بين العلم والأدب، أو بين اختصاصها في علم الاقتصاد وبين هواية الشعر عندها، مشيرة إلى أن الإنسان لم يعد يعيش بمعزل عن جوانب الإبداع الموجودة في ثقافة المجتمع،  أو ثقافات المجتمعات الأخرى، فلا تعارض بين الاقتصاد كعلم حصلت فيه على أرفع الدرجات العلمية، والشعر الذي يمثّل لها مهرباً وملجأ من أزمات العالم ومشكلاته·
ولقد شغلتها هموم الوطن العربي وقضاياه السياسية الكبرى، وتأتي في مقدّمتها قضية الشعب الفلسطيني، فندّدت في كتاباتها الصحافية المختلفة بالاحتلال الصهيوني الغاشم للأراضي العربية المحتلة، والحصار الدائم لمخيمات الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وانتقدت كذلك الاختلال الشاسع في ميزان القوى الاستراتيجي لصالح إسرائيل، وطالبت بالعمل على تحقيق توازن نووي في منطقة الشرق الأوسط، طالما يمتلك أعداؤنا هذا السلاح·
إن سعاد الصباح - مثل كل مثقّفة عربية تعيش قضايا أمّتها وتشارك بإيجابية في إحداث التغيير إلى الأفضل - تجسّد حجم الطاقات العربية الهائلة والكامنة فينا، إن استثمرنا جانبا من مواردنا في التنمية الاجتماعية والثقافية لمصلحة المرأة العربية على امتداد الوطن الكبير·

قال لي


قال لي: ما اسمك في سمعي, سوى أحلى الأغاني
قال إن اسمي صدى الناي.. وإيقاع الكمان
ودعاني لذراعيه بلطف.. واحتواني
وكأنا في خميلات الهوى عصفورتان..
ثم غبنا في زمانٍ.. ليس من عمر الزمان..
وعناقٍ.. مرت الساعات فيه كالثواني..
لهفت نفسي, وهو في ضوء الغروب الأرجواني
ينفث السيجارة الحسناء في جو المكان
يلهب الأنفاس بالنار ويلهو بالدخان
فأحس الدفء والنشوة في كل كياني
وأعني فرحة الحب بقلبي ولساني
 
وأنادي: يا حبيب العمر, يأغلى الأماني
أنت إيماني, وصومي, وصلاتي, وأذاني..
 

لقاء مجلة لنا - سبتمبر 2012