الأحد، 19 أكتوبر 2014

مقدمة كتاب " الثقافة في الكويت "


مقدمة كتاب " الثقافة في الكويت "

وفاء للكويت

 بقلم:  د. سُعَاد محمّد الصّبَاح

الطبعة الأول 1997



تعيش الأمم تاريخها مرتين:
الأولى مع الحدث والإنسان الصانع له، والثانية مع الحدث والإنسان مدوناً ما ترك من أثر وأحدث من فعل عبر الأزمان.
لذلك كان التاريخ وعاء الإنسانية في ماضيها وزاداً لحاضرها الذي لا غنى لها عنه إن أرادت أن تعرف الحياة، كيف كانت، بأعلامها وبأحداثها وبما جرى عبر السنين وبقى محفوراً في ذاكرة الحجر والقدر. وقد سجل القدماء لنا تاريخ ما عاشوه فقدموا لحضارتهم جليل العطاء إذ صانوا ذلك الماضي من الضياع، وحفظوا لمن صنعوه حقهم في الخلود والبقاء. وقد اهتمّ الإنسان المعاصر بالبحث المضني سعياً وراء تفسير الألغاز التي حفظتها أوراق البردى والنقوش وألواح الطين، وصرف الألوف من العلماء جل حياتهم من أجل فك طلاسم الميراث الحضاري الموصد الأبواب، ومحاولة فهم التاريخ عبر خطوط ورسوم وإشارات بالغة الغرابة والتعقيد. ولكن روح العلم كانت أعظم من ذلك كله فإذا بالكهوف المغلقة تفتح أبوابها أمام التحليل الدقيق الذي أخذ يكشف أسرار الكون والإنسان في غابر العصور، وإذا بنا أمام كمٍ هائل من المعرفة بأحوال الشعوب والأمصار، وأحداثها وقوانينها وتقاليدها وأعرافها وآدابها من ملاحم وشعر وقصص فيها من الخرافة بقدر ما فيها من التخيّل والإبداع.
وهكذا تنبّه الإنسان إلى ضرورة التدوين لحفظ الحقيقة. ولعل ذلك أبرز ما وسم قرار الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، حين أمر بتدوين القرآن الكريم، صوناً لرسالة الله عزّ وجلّ إلى الإنسان عبر جبريل عليه السلام، وحياً ينزل على أكرم خلقه وخاتم أنبيائه ورسله محمد بن عبدالله، عليه أفضل الصلاة وخير السلام.
إن نظرة دقيقة ومنصفة إلى حكمة تدوين الكتاب المنزل سوف تبيّن لنا كيف صان هذا التدوين كتاب الله من التحريف أو التزييف أو الضياع والتلاعب، فأبقى للرسالة النبوية قدسيتها وصان للإسلام قانونه ووجوده وفعله في التاريخ. إن مجرد تصور ما كان سيكون عليه مصير الإسلام لولا تدوين القرآن الكريم يصيب النفس بالرعدة لما كان سيؤدي إليه من تمزق وإنكار واختلاف وجدل مدمر يوقف مسيرة الإسلام المظفرة، ويشغل العقول والأفئدة عن الجهاد والفتح وإرساء الدعائم بالتفكك والشكوك والريبة والنزاعات.
من هنا فإن كتابة تاريخ الشعوب فيه صون لماضيها وتراث ثمين لحاضرها ولمستقبلها. لذلك رأيت أن من واجبي، وضمن اهتمامي الأساسي بالثقافة ومسيرتها، ضرورة تسجيل ما يتوافر من حقائق عن حياة الكويت الثقافية ورموزها وعطائها عبر السنوات الخمسين المنصرمة، وهي  السنوات التي شهدت ولادة الحرف المطبوع عندنا وبدايات التنوير والمعرفة العلمية والأدبية. ولقد كانت هذه المهمة التي ندبت نفسي لأدائها ثقيلة وشاقة، وجديدة على حياتنا العربية الثقافية، باستثناء تجربة رائدة ومشرّفة تمت في التوأم العزيز، دولة البحرين. وكان من حظنا أن يتولى من أدى تلك الأمانة للبحرين، حمل مسؤولية الاعداد والتحرير لعملنا الكبير هذا، عنيت الأستاذ الدكتور محمد يوسف نجم، أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأميركية ببيروت لأكثر من خمسة وأربعين عاماً متصلة.
وكان للأخوة الأعزاء الأساتذة : الدكتور حسن علي الإبراهيم، والدكتور خلدون حسن النقيب، والدكتور سليمان إبراهيم العسكري ومحمد خالد طاهر القطمه، فضل المشاركة في الاجتماع التأسيسي لمناقشة مشروعنا والبحث في الأسماء المرشحة لتولي تحرير فصوله المتعددة وإضاءة جوانب المسيرة الثقافية لوطننا، في عمل مضنٍ: عطاء وتنفيذاً.
واليوم، إذ أمسك بأوراق المسح الثقافي لدولة الكويت خلال نصف قرن، أشعر بالغبطة العميقة تغمر روحي وتملأ جوانحي بالفرح الحقيقي لإنجاز هذا المشروع الجليل في قيمته وأثره . إنه فرح الولادة الكبيرة لعمل يستحق كل ما بذل من أجله ليكون للكويت ديوانها الثقافي ومرجعه التاريخي. وإذا كنت أستشعر كل هذه الغبطة وهذا الفرح فإنني لأرجو أن ينال هذا العطاء                           
ما يستحقه من دراسة تصحح ما قد يكون وقع فيه من خطأ أو سهو أو إغفال، وكلها سمات قد ترافق عملاً في هذا الحجم الكبير من الجهد الإنساني. ولا يمكن أن أغفل تسجيل شكري الصادق والعميق للأخوات وللأخوة الباحثات والباحثين الذين أثروا هذا العمل بنتاج جهدهم الخلاق فكانوا أصحاب العون لنا في إنجاز مشروعنا الكبير.
وكلي أمل في أن أكون قد قدمت لوطني بعض ما يستحق من دين في عنقي، سيبقى كبيراً وسأبقى عاجزة عن الوفاء به على امتداد السنين.
إنني اعتبر تدوين تاريخ الكويت الثقافي، هو عمل الأعمال، ومنارة المنارات في تاريخ حياتي الثقافية.
وإذا كان ثمة أم رائعة أخذت بيدي، واحتضنت حركة أصابعي، وأشعلت طموحي في تجسيد هذا الحلم الثقافي الكبير والذي هو في الأصل عمل مؤسسات حكومية، لا فردية، فهذه الأم العظيمة هي الكويت.

فشكراً لحنان صدرها الذي كتبت عليه أجمل كلمات الحرية.. وزرعت أحلى أزهار المعرفة.            

مقدمة كتاب " فهرس الصحافة العربية" بقلم: د. سعاد الصباح





ترتبط الحياة العربية منذ مائة عام بالصحافة ارتباطاً وثيقاً وصل في يومنا إلى حد إدمان قراءتنا لصحيفة أو لأكثر ، ومنذ الصباح الباكر. أصبح العربي يطلب جريدته وقت يفيق ويندر أن تجد قارئاً لا يتصل بالصحيفة يومياً. وقد واجهت هذه التجربة مئات المرات خلال السفر، وفي أماكن بعيدة من العالم لا تصل إليها الصحف العربية وإن وصلت جاءت متأخرة. ورغم ذلك فإن الاطلاع عليها يظل مطلوباً، مما يؤكد على الارتباط العميق لنا مع الصحافة، رغم توفر وسائل الإعلام والاتصالات الأخرى والتي تسبق الصحيفة إليك حيثما تكون وساعة تشاء.
ونظراً لأهمية الصحف العربية بالنسبة للمؤسسات وللأفراد فقد جاء هذا الكتاب فهرساً شاملاً لما أمكن الوصول إليه من معلومات من مختلف الأقطار العربي. وأعرف جيداً مدى الصعوبة التي واجهت الباحثين والمشقة في انتظار الردود على الاستفسارات والاستبيانات التي وزعت، والتي تجد طريقها إلى النشر في هذا الفهرس.
وكل ما اتمناه أن نكون وفقنا في تقديم خدمة نحتاج إليها، وأن نكمل أو يكمل الآخرون طريق الاستزادة من المعرفة بعالم الصحافة دراسة واحصاء. إن الصحافة العربية لم تحظ بالدراسات التي تستحق، وما هذه الخطوة، سوى أول الطريق لتسهيل التواصل بين الباحثين وبين المؤسسات الإعلامية العربية، لعلنا بذلك نكون قد وضعنا لبنة أولى على الطريق إلى معرفة متنامية ومتكاملة بهذا العالم المتعدد الأصوات والألوان والرؤى والآفاق، عنيت عالم الصحافة العربية.



د. سعاد الصبـاح

الطبعة الأولى 1997
 


مقدمة الطبعة الخامسة 2014 لكتاب صقر الخليج


بقلم: د. سعاد الصباح




ما التاريخ؟
هذا هو السؤال الذي أصاب أجيالا من الباحثين والمؤرخين بالحيرة، واختلفت بشأنه الإجابات وتعددت الاجتهادات.
فمن حيث القوى الفاعلة في التاريخ اعتبر البعض أن الزعماء والرؤساء هم العنصر الحاسم في مراحل التاريخ وكان من هؤلاء المؤرخ المصري عبدالرحمن الرافعي الذي كانت عناوين كتبه دالة على ذلك مثل: عصر محمد علي، وعصر إسماعيل، ومصطفى كامل والأستاذ حسين بن الشيخ خزعل الذي أصدر كتابا عن تاريخ الكويت السياسي بنفس المنهج، بينما ركز آخرون على تطور القوى الاجتماعية ورصد التغيرات التي تحدث في المجتمع مثل التصنيع وانتشار التعليم والانفتاح على الخارج.
ومن حيث مجال التاريخ وموضوعه كان هناك من اهتم بالتاريخ السياسي وتطور الوقائع والأحداث المتصلة بشكل نظام الحكم، بينما ركز فريق آخر على التاريخ الاقتصادي – الاجتماعي، وفريق ثالث على تاريخ المؤسسات والنظم الاجتماعية إلى غير ذلك من مجالات.
وبالرغم من هذه التنوعات والاجتهادات فإن هناك اتفاقا عاما على أن التاريخ ليس مجرد أحداث الماضي، فالماضي حدث وانصرم ولكن التاريخ هو الماضي منظوراً له بعين الحاضر والمستقبل، أو هو «التاريخ الحي» أي التاريخ الذي لايزال يعيش في حاضر المجتمع وثقافته ومؤسساته وهو حي في حياة الناس وإدراكاتهم وأمثالهم الشعبية.
وهذا الكتاب يجمع بين دفتيه أكثر من منهج:
فهو من ناحية أولى، يندرج ضمن كتب التراجم أو السير الذاتية لأن موضوعه هو قصة حياة الشيخ عبدالله مبارك الصباح ودوره في بناء الكويت الحديثة.
وكما يتضح من الكتاب فإن هذا الرجل كان شخصية استثنائية بكل المعايير فقد استطاع الفكاك من أسر المجتمع التقليدي الذي نشأ فيه وأن يتطلع إلى آفاق المستقبل الرحبة وأن يدعم قوى التغيير في الكويت، بل يشارك في صنعها من خلال أدواره في عديد من المجالات التي يعرض لها الكتاب.
وهو شخصية استثنائية لأنه أصغر أبناء الشيخ مبارك الكبير مؤسس الكويت، والذي أصبح من بداية العشرينيات - رغم صغر سنه - عمّاً لمن تولوا إمارة الكويت.
والكتاب من ناحية ثانية، بحث في التطور السياسي والاجتماعي وعملية التحديث وبناء المؤسسات في الكويت فلم يركز على السمات الشخصية لصاحب السيرة وإنما درسها في سياقها الاجتماعي.
حرصت على ذلك لأنني لا أعتقد أن تاريخ أي مجتمع هو تاريخ الزعماء، أو أن الأبطال – كما رأى كارليل هم ماكينة التطور، فالأساس في تاريخ أي مجتمع هو الشعب والناس.
ويترتب على ذلك أن القيادة أو الزعامة ليست مجرد سمات شخصية أو ذاتية، ولكنها تتمثل في قدرة الشخص على التواصل مع مجتمعه وفي التعبير عن احتياجات ناسه.... القيادة هي قدرة الشخص على القراءة الصحيحة للموقف التاريخي الذي يمر به وطنه ومجتمعه، وأن يسعى للتعبير عن الاحتياجات والطموحات المرتبطة بهذا الموقف، وأن يعمل من أجل مشاركة مواطنيه في بناء المؤسسات وتوفير الخبرات اللازمة لتحقيقها.
لذلك سوف يجد القارئ لهذا الكتاب تحليلاً لأثر ظهور النفط على المجتمع الكويتي واقتصاده وثقافته، وكيف ساهم الشيخ عبدالله مبارك الصباح في التكيف مع هذا التغير والتواصل مع القوى الاجتماعية الجديدة الصاعدة في المجتمع بسبب انتشار التعليم وثورة التوقعات المتزايدة، وهذا ما يفسر دوره في إنشاء الأندية والجمعيات الثقافية التي مثلت اللبنات الأولى في بناء المجتمع المدني في الكويت.
ويجد القارئ في هذا الكتاب المادة التاريخية التي تدل على كيفية صنع القرار في الكويت في الخمسينيات وأنماط العلاقات بين شيوخ آل الصباح، ودور الوكيل البريطاني في التأثير على صنع القرار وتدخله في الشؤون الداخلية للبلاد، والسعي للوقيعة أو إثارة التنافس بين الشيوخ.
والكتاب من ناحية ثالثة، بحث في العلاقات العربية والدولية فيدرس صفحات من تطور الأوضاع العربية، وقضية انضمام الكويت إلى جامعة الدول العربية قبل الاستقلال، ويعرض لجذور الأطماع العراقية في الكويت، وبعلاقات التعاون والتنافس في آن بين بريطانيا والولايات المتحدة في منطقة الخليج، وهي علاقات كانت بين قوة استعمارية متراجعة يخفت نفوذها وقوتها ولم تعد قادرة على تحمّل مسؤوليات القيام بالدور الإمبراطوري الذي لعبته لأكثر من قرن، وقوة أخرى شابة صاعدة خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية وسعت لوراثة نفوذ الدول الأوروبية وبناء إمبراطورية جديدة لها.
لقد استغرق البحث في المادة العلمية لهذا الكتاب السنوات الأولى من حقبة التسعينيات من القرن العشرين وصدرت طبعته الأولى عام 1995، وهأنذا بعد حوالي عشرين عاماً أعكف على كتابة مقدمة الطبعة الخامسة. وخلال هذه الفترة حرصت على متابعة كل ما صدر عن مرحلة الخمسينيات من كتب أو ما يتم نشره من وثائق لم تكن متاحة من قبل وسعيت لإضافة أية معلومات جديدة إلى الكتاب، وفي هذه الطبعة استفدت من الوثائق الجديدة التي نشرها مركز المخطوطات والتراث والتوثيق في كتاب أصدره عن الشيخ عام 2010، وحرره الأستاذ محمد بن إبراهيم الشيباني، ومن كتب السيرة الذاتية لعدد من ضباط الجيش الكويتي الذين تعرضوا بالتفاصيل لعملية بناء الجيش ولدور الشيخ عبدالله مبارك الصباح فيها واستفدت أيضاً من المجموعة الكاملة لمجلة الكويت اليوم، والتي كانت بعض أعدادها غير متاحة لي من قبل.
وأعود إلى تعبير «التاريخ الحي».... وأقول إن التاريخ يكون «حيًّا» عندما يتناول شخصيات وموضوعات كانت ومازالت مؤثرة في حياة مجتمعاتها، ويكون إسهامها في شكل مؤسسات مستمرة في العطاء والبذل، بحيث تكون هذه المؤسسات شهادة متجددة في حق الآباء المؤسسين للدولة الحديثة في الكويت، والذين عملوا في ظروف جدّ مرهقة وشقوا طريقهم وسط الصعاب، وفي أوقات لم تكن فيها الكويت تمتلك القدرات والكفاءات البشرية المتوافرة لها اليوم.
لقد كتبت في مقدمة الطبعة الأولى للكتاب: أن هدفي الوحيد هو إظهار وجه الحقيقة لمرحلة مهمة في تاريخ الكويت، وحرصت على توثيق كل واقعة أو حدث. وأحمد الله أنه على مدى عشرين عامًا لم تصدر دراسة علمية تنكر ما رصدته من وقائع أو ما وصلت إليه من نتائج مرتبطة بتلك الوقائع.
والله من وراء القصد.

سعاد محمد الصباح
الكويت 2013


مقدمة الطبعة الأولى
إن هذا الكتاب ليس مجرد «قصة حياة» حتى ولو كانت لرجل غير عادي واستثنائي كعبدالله مبارك الصباح.
إنما هو كتاب «توثيق لمرحلة مهمة من التاريخ العربي للكويت» بجميع الأبعاد الوطنية منها والإقليمية والدولية.
تم هذا التوثيق من خلال «تتبع حياة عبدالله مبارك» بجوانبها «الخاصة والعامة»... أي «إنساناً» يمثل مجموعة من «المشاعر والمبادئ» و «رجل دولة» من الطراز الأول لعب دورًا حاسمًا في تاريخ بلده ترك من خلاله آثارًا ملموسة على الساحتين الإقليمية والدولية.
ولا شك في أن «الهدف والأسلوب»... أي «التوثيق التاريخي» و«منهج هذا التوثيق» يُعدّان «تحدياً» فكرياً وعلمياً يفوق بكثير حدود «الكتاب الواحد» أو حتى «الكتب المتعددة».
فتاريخ الكويت - رغم الصغر النسبي لمساحتها الجغرافية - خلال الحقبة الزمنية موضوع البحث... إنما هو تاريخ حافل بالأحداث المهمة والمؤثرة... وهو تاريخ له خصائصه المميزة وأبعاده المتنوعة.
وحياة الرجل... إنساناً ورجل دولة.. هي حياة مليئة بالأحداث المهمة... والأدوار المؤثرة... واللفتات المعبرة والنادرة، وقراءتها واستيعابها ليسا بالأمر السهل.
فشأنه شأن كل الشخصيات التاريخية المتميزة... لم يكن عبدالله مبارك شخصية عادية تكفي لفهم حياته قراءة واحدة أو حتى قراءات محدودة.. بل إنه - رحمه الله - كان للبعض «لغزًا محيًّرا» رغم «بساطته وصراحته وتلقائيته المتدفقة»... بل وضوحه إلى أقصى الدرجات.
وكان للبعض الآخر «موضع جدل ونقاش» فاق في كثير من الأحيان حدود الإنسان ودوره في الحياة الخاصة والعامة... رغم تمسكه التام بمبادئه طوال حياته سواء أكان ذلك في دائرة الضوء أم خارجها.
إن الغاية من هذا الكتاب لا تقوى على الارتقاء إلى شموخ «التوثيق الوافي» للتاريخ أو للرجل سواء مهمتان منفصلتان أو مهمة واحدة... وإنما «التركيز على دور عبدالله مبارك خلال مرحلة مهمة من تاريخ الكويت مع إبراز العلاقة الحميمة والتفاعل الوثيق بين «حياة الرجل» و «تاريخ الوطن».
وليس هناك دوافع شخصية وراء ذلك.. فالكتاب لا يحاول أن يفرض عبدالله مبارك على تاريخ الكويت... فمكانه في التاريخ المعاصر لدولة الكويت ثابت ومدعم بالحقائق. وإنما الهدف من هذا الكتاب إذن هو محاولة تسليط الأضواء على دوره المهمّ في تاريخ الكويت لإتاحة الفرصة للأجيال الجديدة لكي تتعرف على المؤسسين الأوائل للدولة وإسهاماتهم التاريخية في بناء المؤسسات وإرساء دعائم الحكم، وعلى الرموز التاريخية المضيئة التي صنعت تاريخ الكويت الحديث.
وهذا المنهج التوثيقي - وهو منهج معروف في البحوث التاريخية - يعتمد في نجاحه على طبيعة الشخصية موضوع التوثيق وأبعاد الدور الذي قامت به في حياة مجتمعها... وليس هناك أدنى شك في صواب الاختيار لعبدالله مبارك الصباح.
فبالرغم من أن الرجل انحدر من أصول قبلية ونشأ في أحضان البداوة، إلا أن عينه كانت دائمًا شاخصة إلى أفق العصر.
وبالرغم من أنه انتمى بجذوره إلى مجتمع تقليدي محافظ، فإنه قد وقف دائمًا إلى جانب الحداثة، وحلم بأن يجعل من الكويت دولة معاصرة، متطورة، منفتحة على العالم والمستقبل.
هذه الطموحات الكبرى التي خالجت نفس عبدالله مبارك كانت طموحات «خطيرة» في ظل الأوضاع السياسية الداخلية والإقليمية والدولية التي سادت خلال فترة تأسيس الدولة والتي حددت - إلى درجة كبيرة - خريطة المنطقة.
فلا الحرية كان مسموحًا بها في ظل الحماية البريطانية... ولا الحداثة سلكت طريقها إلى مجتمع ترهقه الأعراف والفكر القبلي... ولا الوحدة العربية نبت جنينها في وقت كان الاستعمار يخطط فيه لإجهاض أي وحدة ممكنة بين العرب... بأي أسلوب، وبأي ثمن.
وبالرغم من أنه لم يتلق إلا قسطًا من التعليم... فقد كان علميًّا - بالسليقة - في تصرفاته، يقدر العلم والعلماء، ويشجع الاستثمار البشري بكل أشكاله، ويدعمه بكل ما يملك.
ومع رقة مشاعره المرهفة، ودمعته الحبيسة دائمًا بأجفانه... إلا أنه كان حازمًا في قراراته، صلبًا في مواقفه. وفي الأحوال كافة، اتسم سلوكه بالعدل بين الناس دون تفرقة أو تمييز بين غني وفقير، بين ابن الصباح ومواطن آخر، بين صديق له وآخر من عامة الناس.
ومع عشقه الدائم، التلقائي، العميق لوطنه الصغير الكويت... لم يكن جامدًا متحجرًا في وطنيته ولا متعصبًا في قوميته... بل اتسمت رؤيته بالشمول والتكامل، وسياساته بالمرونة والواقعية، وتقديراته ببعد النظر وأخذ كل الأبعاد الإستراتيجية لقرار ما بعين الاعتبار.
إن هذا المزيج الفريد لرقة المشاعر وحسم القرار وعمق الوطنية، مغلفا ببعد النظر ومرونة السياسات يعني «صواب الاختيار» لهذه الشخصية التاريخية واتخاذها أساسًا لمحاولة التوثيق التاريخي لمرحلة مهمة من تاريخ الكويت الحديث.
وفضلاً عن ذلك، فإن هذه الشخصية التاريخية شاركت في صنع أحداث حافلة ومثيرة خلال فترة طويلة من الزمن، حتى عندما اختار الرجل أن يتنحى إلى «منطقة الظل» برغبته ولأسباب حكيمة قدّرها بنفسه، فإنه لم يكن غريبًا في المجال العربي وإلى حد ما الدولي، واستمر يلقى معاملة كبار رجال الدولة في عديد من الدول العربية والأجنبية.
وخلال ما يزيد على نصف قرن من الزمان شهد عبدالله مبارك عديدًا من الأحداث، وبعضها شارك في صنعها أو كانت له اليد الطولى في حدوثها. فعلى المستوى الوطني وخلال خمسة وثلاثين عامًا، أسهم في بناء دولة الكويت الحديثة في مختلف مراحلها. ويمكن أن نميز بين عدة مراحل في هذا المجال: المرحلة الأولى وهي التي تبدأ من عهد مبارك الكبير وتستمر حتى تولي الشيخ أحمد الجابر الحكم في عام 1921، وشهدت هذه المرحلة وضع أساس الدولة. واتسمت المرحلة الثانية (1921-1946) بالسعي نحو «إيجاد مؤسسات متوازنة للسلطة»، والبحث عن صيغ للمشاركة الشعبية. أما المرحلة الثالثة (1946-1960) فهي مرحلة التغير السريع في المجتمع ومؤسسات الدولة والانفتاح على الخارج تحت تأثير الثروة النفطية التي كان من شأنها إحداث تحولات جذرية في أسلوب الحياة ومستوى المعيشة. وتمتد المرحلة الرابعة (1960-1990) من الاستقلال إلى فترة الغزو العراقي والاحتلال، وأخيرًا مرحلة التحرير وإعادة البناء منذ عام 1991.
في المرحلة الأولى، كانت مسؤولية الشيخ - وهو ما زال في فترة الشباب المبكر - إدارة الأمن العام ومكافحة التهريب. وزادت أهمية هذا الدور في سنوات الحرب العالمية الثانية، وهو ما دفع الحكومة البريطانية في عام 1945 إلى منحه وسام الإمبراطورية الهندية. ولكن الدور الأكبر للشيخ كان في السنوات العشر السابقة على الاستقلال. ويبدو أن القدر ربط بينه وبين وطنه في مرحلة حاسمة من التطور لكليهما. فقد كان الشيخ في بداية الثلاثينيات وهي مرحلة الرجولة والقدرة على العطاء، وكان الوطن يتفجر حيوية ونشاطًا ويتدفق بالخير والنماء. وتفاعل الرجل مع متطلبات المرحلة من أجل بناء مؤسسات الدولة الحديثة، كما سيتبين من هذا الكتاب، فقد كان لهذه المرحلة ضروراتها التي كان على الشيخ أن يتعامل معها.
ومع توّلي الشيخ عبدالله السالم زمام الحكم، أخذ دور عبدالله مبارك يتبلور من حيث حجم المسؤولية ومداها؛ حيث تولى الحكم بالنيابة للمرة الأولى في عام 1950، ثم عام 1951، ثم تولاه في عام 1952 لمدة ثلاثة أشهر، ومرة أخرى المدة ذاتها عام 1953، ولمدة شهرين عام 1954، وثلاثة أشهر عام 1955، ولشهر واحد عام 1956، ثم أربعة أشهر عام 1957، فخمسة أشهر في عام 1958، وفي عام 1959 تولى الحكم في كل شهور السنة ما عدا شهر أكتوبر، وفي عام 1960 لمدة ستة أشهر. وبصفة عامة، فقد تزايدت مهام نائب الحاكم في السنوات الثلاث السابقة للاستقلال بسبب مرض الحاكم وازدياد فترات سفره خارج الكويت. ولما كانت هذه المرحلة «منعطفًا تاريخيًّا نحو الحصول على الاستقلال»، واتسمت «بالتحرك السياسي الخارجي النشط والانفتاح السياسي الداخلي»، فإن دور عبدالله مبارك في هذا «المنعطف التاريخي نحو بناء المؤسسات الحديثة» كان محوريًا ورئيسًا.
ولئن كان عبدالله مبارك قد دخل - بعد استقالته في أبريل 1961 -ولمدة ثلاثة عقود - في منطقة الظل بعد أن كان في مرحلة ما قبل الاستقلال وتداً أساسيًّا في بناء دولة الكويت الحديثة، فإن ارتباطه بالكويت ومتابعته لأحداثها وإسهامه في تطورها - في الحدود التي فرضها على نفسه فيما يتعلق بالعمل العام - لم ينقطع. بل إنه عندما جاءت صدمة الغزو - وبرغم مرضه - وضع نفسه وعائلته وكل ما يملك في خدمة أسمى الأهداف وأعزها إلى نفسه، وهو تحرير الأرض التي عشقها وعمل وتفانى من أجلها، حتى تحقق أمله في العودة إلى أرض الوطن. لقد كان غيابه عن وطنه هذه المرة سنة كاملة إذ غادر الكويت في 15 يونيو 1990، وعاد إلى أرضها المحررة ليرقد في ترابها، حين كان على موعد مع القدر في لندن في 15 يونيو 1991.
وخلال السنين، عرف الرجل العشرات من رجالات السياسة العرب والأجانب، واعترك الحياة السياسية العربية، وعرف دخائلها وتفاصيلها، وأدرك خباياها وقضاياها. ويعد الشيخ عبدالله مبارك من أبرز السياسيين الخليجيين الذين حافظوا على علاقاتهم الوثيقة بالبلاد العربية الأخرى، وعملوا على تطويرها ودعمها باستمرار، لأن الشيخ كان مؤمنًا بالعروبة والتضامن العربي بشكل طبيعي وتلقائي.
ولم تكن عروبته بحاجة إلى «تنظير» أو «جدل فلسفي». فقد كانت نابعة من البيئة التي تربى فيها والمناخ الذي شكل عقله، وأثر على تفكيره ووجدانه. فقد عاصر الأحداث الكبرى للأمة العربية وشارك فيها. كان موقفه إزاء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 مزيجًا من «الوطنية» و «القومية» ومتطلبات «السياسة الرشيدة الواعية الحريصة على تفادي المخاطر غير المحسوبة». وكان دوره في أعقاب حرب 1967 ثم دعمه لجهود التحرير التي توجّت بنصر أكتوبر عام 1973 مثلاً يحتذى في التضحية من أجل الأهداف العليا، وامتدادًا طبيعيًا ومنطقيًا لمواقفه تجاه كافة القضايا العربية المصيرية. كذلك، فقد كانت له نظرة خاصة وتقييم عميق للحرب الإيرانية - العراقية حيث لم يمنعه دعمه في ذلك الوقت لما كان يعد دفاعًا عن الأمن العربي من أن يعبر عن قلقه الشديد وخوفه من التداعيات طويلة المدى لهذه الحرب على استقرار المنطقة وأمنها، بل إنه تنبأ - ومنذ الأيام الأولى لاندلاع الصراع - بأن هذه الحرب ستكون حربًا طويلة ومدمرة خلافا لما كان شائعًا وقتذاك من أن حروب «العرب» تستمر لساعات وعلى الأكثر لأيام معدودة.
وكانت مواقفه تجاه الدول الكبرى تتسم بالواقعية من ناحية، وبالشجاعة، من ناحية أخرى. فقد أقام الشيخ عبدالله مبارك علاقات دولية عديدة لأنه شعر في وقت مبكر بأن على الكويت أن تنفتح على العالم الواسع من حولها، وأن تعرف ما يدور فيه، وأن تقتبس منه أفضل نظمه. ولذلك، فقد حرص على زيارة الدول الأوروبية المتقدمة، بل إنه في الأربعينيات، يوم لم تكن هناك خدمات طيران متقدمة كالتي نعرفها اليوم، قام بزيارات عديدة لم تقتصر على الدول الكبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا وإنما شملت أيضًا - وعلى سبيل المثال- الدول الإسكندنافية وسويسرا واليونان وإيطاليا وإسبانيا.
ومع انفتاحه على دول العالم، وتفهمه للمتطلبات الجيوبوليتيكة لأمن الكويت، وما تفرضه من علاقات خاصة مع بريطانيا والولايات المتحدة، فإنه كان حريصًا كل الحرص على ألا يكون الثمن على حساب «السيادة» الكويتية أو استقلال الكويت ومصالح شعبها. لذلك، فقد اتسمت علاقات الشيخ مع بريطانيا بالتعقيد، ولم تكن سهلة أو يسيرة. وعلى سبيل المثال، فإن لندن لم تكن مرتاحة لعلاقته بثورة 1952 وجمال عبدالناصر أو لتأييده لثورة الجزائر، كما أنها لم تكن مرتاحة لاتخاذه قرارات تتعلق بالشؤون الخارجية دون التشاور سلفًا مع الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، مثل قراره بإلغاء تأشيرات الدول للعرب، أو قبوله وسامًا من الحكومة اللبنانية في عام 1949 قبل استئذان حكومة صاحب الجلالة. وفي نفس الوقت كانت لندن تعلم حجم قوته ونفوذه في الكويت وتدرك مدى إصراره وتمسكه برأيه ومدى كبريائه واعتزازه بنفسه وبكرامته وعدم قبوله بما يمس هيبته واحترامه، خاصة إذا تعلق الأمر بسيادة الكويت وكرامتها واستقلالها.
وفي هذا الوقت المبكر، كان الشيخ مدركًا لضرورة الاتصال بالولايات المتحدة الأمريكية، وحرص على فتح قنوات اتصال معها باعتبارها القوة القائدة للمعسكر الغربي، وذلك استنادًا إلى فهم دقيق للاقتصاد السياسي للنفط وللدور الذي يلعبه في الاقتصاد الأمريكي. لذلك- وعلى سبيل المثال- فقد حرص الشيخ على معرفة دور الولايات المتحدة في الدفاع عن الكويت إذا ما تعرضت لعدوان خارجي، ومدى وجود تنسيق بريطاني- أمريكي بشأن أمن الخليج.
إن هذا الكتاب يغطي فترة زمنية تبدأ من العشرينيات من القرن الماضي، وعلى وجه الخصوص من عام 1926، عندما كان عبدالله مبارك في الثانية عشرة من عمره حيث بداية عمله العام، وتنتهي في يونيو عام 1991 عندما وافته المنية ودفن في أرض وطنه. وتتضمن هذه الحقبة الطويلة فترات فرعية: الأولى، وهي فترة المشاركة في الحياة العامة وتبدأ من عام 1926 تقريبًا وتنتهي باستقالته في أبريل عام 1961. والثانية، وهي فترة الدعم والمساهمة وتنتهي بالغزو العراقي للكويت. والثالثة، فترة مواجهة الغزو والتحرير حتى وفاته. وهذه الفترات الثلاث تشمل أحداثًا تعد منعطفات تاريخية على كل المستويات: على المستوى الوطني، شهدت هذه الفترة إقامة ركائز الحكم وبناء المؤسسات قبل الاستقلال، ثم الاستقلال وتحقيق الاستقرار مرورًا بالطفرة النفطية ثم الوفرة النفطية، فالحرب الإيرانية - العراقية، فالغزو العراقي الغاشم، وانتهاء بمقاومة الغزو وفرحة التحرير. وعلى المستوى العربي، بداية بالفترة السابقة على تأسيس جامعة الدول العربية، فحرب فلسطين الأولى والعدوان الثلاثي على مصر وكارثة عام 1967، ثم حرب الاستنزاف فنصر أكتوبر ثم معاهدة كامب ديفيد، وانتهاءً بالغزو العراقي وإسهام غالبية الدول العربية في التحالف الدولي في حرب تحرير الكويت. وعلى المستوى الدولي، بداية بأحداث ما بعد الحرب العالمية الأولى، فالحرب العالمية الثانية، ففترة الحرب الباردة، وانتهاءً بانهيار المعسكر الشرقي وبدايات النظام العالمي الجديد، واختبار هذا النظام الجديد لأول مرة في حرب الخليج، وما صاحب ذلك من تغيّر ملموس في دور منظمة الأمم المتحدة.
إن هذا الكتاب يعدّ من الزاوية التاريخية من الكتب القليلة، بل النادرة، التي تغطي مساحة بهذا القدر من الاتساع الزمني لما يزيد على نصف قرن وبهذا القدر من المادة التاريخية، فضلاً عما تخللها من حروب وصراعات ومواجهات، إضافة إلى المزيج المعقد والفريد من التحالفات والتناقضات بين دول صغرى وأخرى عظمى، وشقيقة ثم معتدية، ومستعمرة ثم صديقة وحليفة...
في هذا الخضم من العلاقات المتشابكة والمعقدة، والأحداث الصغيرة والكبيرة، والاستقرار وعدم الاستقرار، والسلام والحرب، والرخاء والكساد، والهدوء والاضطراب... في هذا المحيط الذي ليس له حدود عادية، يركز هذا الكتاب على الدور الذي لعبته شخصية تاريخية ذات نشأة بدوية بسيطة في حياة أمة صغيرة مسالمة وآمنة وجدت نفسها - ودون اختيار منها - في خضم أحداث هائلة على مدى ما يزيد على نصف قرن من الزمان.
إن هذا المنهج للتوثيق التاريخي اعتمادًا على الشخصية محل الدراسة له العديد من المزايا... فهو يتّسم بالموضوعية وسهولة القراءة وتبسيط لأمور هي بطبيعتها معقدة، ومن ثم فهو يقرب التاريخ ويجعله متاحًا لدائرة أكثر اتساعًا من القراء، وهو أيضًا يبرز البعد الإنساني في صنع أحداثه والتأثير على مساره. ومن هنا، تسهم قراءة التاريخ في تعميق الشعور بالانتماء وتحريكه في اتجاه خدمة الوطن، بل والإنسانية عامة.
غير أن هذا المنهج لا يخلو من المخاطر... فهناك عامل الانحياز وبخاصة إذا كانت الكاتبة من أقرب المقربين لهذه الشخصية التاريخية، معجبة بها لأقصى الدرجات، بل مولعة بحبها ومتيمة بكل مكوناتها... ولما كان هذا الانحياز حاجزاً حاولت قدر المستطاع تفاديه والتقليل من تأثيره فقد أخضعت مادة الكتاب لأقصى درجات التدقيق والتنقيب والتعليق من قبل جهات مختلفة وأفراد ذوي مؤهلات متعددة، منهم من كان صديقًا له أو قريبًا منه ومنهم من لم يعرفه أو حتى يعرف عنه... ومع ذلك، فإن واجب الأمانة العلمية يحتّم عليّ أن أنبّه إلى هذا المعنى، وأطلب من القارئ أن يلتزم جانب الحرص والحذر...
وإلى جانب ذلك، هناك مخاطر «شخصنة التاريخ» وخشية أن يفهم البعض خطأ أن الهدف من الكتاب هو محاولة اختزال تاريخ الكويت في قصة حياة شخص بذاته مهما كان إخلاصه أو عبقريته، فليس هناك أبعد عن الحقيقة من ذلك... فتاريخ الكويت - شأنه في ذلك شأن تاريخ أي دولة أو أمة - هو ملك لشعب الكويت الذي هو صانعه الأول ومآله الأخير.
وهو هذا الشعب الذي أثبت قدرته الخارقة على مواجهة الأزمات مهما بلغت حدتها أو اشتدت خطورتها «بالهدوء العائلي» و «العودة إلى القيم» و «الالتزام بالعقل»... وعبدالله مبارك عرف شعب الكويت وعشقه وعاش ومات في خدمته، وهو لا يمكن أن يوافق على اختزال التاريخ في حياة أفراد- حتى ولو كان بشكل ضمني- في مجال تسجيل دوره.
ينقسم الكتاب إلى ستة فصول، فضلاً عن هذه المقدمة، وملحق الوثائق، والفهارس والرصد التاريخي، ومقتطفات من تعليقات الصحافة العربية على الكتاب.
يتناول الفصل الأول عبدالله مبارك الإنسان، وهو يهدف إلى تعريف القارئ بالشخصية التاريخية موضوع الكتاب، فيتناول نشأته في صباه وشبابه وصفاته الشخصية، ثم بداية مشاركته في الحياة العامة.
 أما الفصل الثاني، فيركز على دور هذه الشخصية التاريخية في بناء المؤسسات الحديثة في مجالات الأمن العام والجيش والتعليم والطيران وهيئات المجتمع المدني. ثم ينتقل الكتاب، في فصليه الثالث والرابع، ليتناول علاقات الكويت الخارجية بداية بالمستوى العربي ونهاية بالمستوى الدولي، مع التركيز على العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة. ومن الدور الذي لعبه عبدالله مبارك في هذا المجال، يتعرض الكتاب لأحداث مهمة ومثيرة مستندًا إلى وثائق تاريخية أتيحت للكاتبة. أما الفصل الخامس، فيتناول غزو العراق للكويت والاحتلال والتحرير. ويحاول التحليل هنا أن يضع هذا الحدث في إطاره التاريخي بإلقاء الأضواء على تطور العلاقات العراقية - الكويتية، ويقدم تقييمًا صادقًا وأمينًا لدور عبدالله مبارك في هذه العلاقات، ثم دوره في فترة الغزو وتحرير الكويت.
أما الفصل السادس، فيحاول أن يقدم تجميعًا تحليليًا لما تناوله الكتاب في فصوله الخمسة الأولى. وكما بدأ الكتاب بعبدالله مبارك الإنسان، انتهى أيضًا بعبدالله مبارك الإنسان. في المقدمة كان التركيز على صباه وشبابه، أما في الفصل الأخير فيتم التركيز على «رجل المبادئ» حيث الربط التحليلي لفصول الكتاب بإرجاعه إلى قاعدة ثابتة ومرجع رئيسي كان محورًا أساسيًا في حياة عبدالله مبارك وهو «مبادئه»، فيفسر دوره في بناء المؤسسات وفي العلاقات الخارجية انطلاقًا من مبادئه الراسخة، ولتأكيد هذا التفسير، يتناول هذا الفصل حدثًا مهماً في حياة عبدالله مبارك العامة وهو الذي يتعلق باستقالته وتنحّيه عن الحياة السياسية في أبريل عام 1961.
ونظرًا لارتباط ذلك بموضوع ولاية الحكم والدور الذي لعبته الحكومة البريطانية في تلك الآونة، يتناول هذا الفصل ما ورد في الوثائق البريطانية بهذا الشأن.. ليتضح أنه كان لابد لأفكار عبدالله مبارك ولمبادئه أن تصطدم بأكثر من جدار، وأن ترتبط بأكثر من لغم.. حتى وجد نفسه في آخر المطاف أمام خيار – لا يمثل في الواقع خيارًا لعبدالله مبارك – إما الاستمرار في المشاركة في الحكم وإما الاستمرار في التمسك بمبادئه.. فآثر أن يترك السفينة بصمت، ورحل إلى موانئ أخرى قادرة على استيعاب رؤاه وأحلامه.
إن التاريخ الكويتي ملك لشعب الكويت.. ولأن عبدالله مبارك من الرواد الذين أسهموا في صنع تاريخ الكويت الحديث، وإحقاقًا للحق، وإنصافًا للرجل، وتسجيلاً للحقيقة.. كان لا بد من أن يجد هذا الكتاب طريقه للنشر، وأن تختتم فصوله بتساؤل حاولت الإجابة عليه.. وهذا السؤال هو: ماذا يبقى منه للتاريخ.. ولماذا؟
لقد اعتمدت في إعداد هذا الكتاب على عدة مصادر علمية ووثائقية متعلقة بتاريخ الكويت في النصف الأول من القرن العشرين وحتى حصولها على الاستقلال في عام 1961، وفيما يلي عرض لأهم هذه المصادر:
1– الوثائق البريطانية:
تعتبر التقارير والمراسلات الدبلوماسية البريطانية المصدر الرئيسي لتاريخ الكويت في هذه الفترة، وذلك بحكم علاقة الحماية التي ربطت بين بريطانيا والكويت وفقًا لمعاهدة عام 1899، وتتمثل هذه الوثائق أساسًا في التقارير التي كان يرسلها الوكيل السياسي البريطاني (Political Agent) في الكويت، والذي كان بمنزلة حلقة الوصل بين الحكومة البريطانية وحكام الكويت.
ومن نهاية الحرب العالمية الثانية، تعاقب على المنصب – أي منصب الوكيل السياسي البريطاني في الكويت:
جاكسون            19441945            Jackson
تاندي    19451948            Tandy
جاكنز   19481951            Jakins
بيلي      19511955            Pelly
بل        19551957            Bell
هالفورد 1957 - 1959 Halford
ريشموند           19591961            Richmond

ريشموند الذي كان آخر وكيل سياسي وأول سفير بريطاني لدى دولة الكويت بعد الاستقلال.
كما تشمل هذه الوثائق أيضًا مجموعة التقارير التي أرسلها المقيم السياسي (Political Resident) في الخليج ومقره البحرين، والذي كان بمنزلة رئيس الوكلاء السياسيين البريطانيين في منطقة الخليج، لذلك كان يسمى أحياناً برئيس الخليج.
وتوجد هذه التقارير في مكتب السجلات الرسمية (Public Records Office) وأغلبها تحت رقم FO371 وكذلك في مكتب الهند (India Office).
وجدير بالذكر أن بعض هذه التقارير تم تجميعها في مجلدات على النحو التالي:
أ– اليوميات السياسية في الخليج «الفارسي» 1904 - 1958
Political Diaries of The Persian Gulf:
وتتضمن الرصد اليومي للأحداث كما سجله الوكلاء السياسيون في إمارات الخليج المختلفة، وقد صدرت هذه اليوميات في 20 مجلدًا.
ب– سجلات الكويت 1899 – 1961
Records of Kuwait (1899 – 1961) Edited by A. D. L. Rush:
التي صدرت في عام 1989 وتتكون من ثمانية مجلدات فضلاً عن صندوق للخرائط، وتتناول مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الكويت.
ج– السجلات السنوية للخليج
Annual Records of the Gulf:
وتتضمن التقارير التي يتم الإعلان عنها سنويًا وصدرت عام 1992 ستة مجلدات تضم التقارير التي كتبت في عام 1961. كما صدرت عام 1993 ستة مجلدات أخرى تضم التقارير عن عام 1962.

د– التقارير السنوية لوزارة الخارجية البريطانية من جزيرة العرب
1960 - 1930 Foreign Office Annual Reports from Arabia:
وتشمل التقارير السنوية للمبعوثين الدبلوماسيين البريطانيين لدى دول الخليج وشبه الجزيرة العربية، وصدرت في أربعة مجلدات. وتتضمن التقارير الخاصة بالكويت عن فترة 1959-1960.
2– الوثائق الأمريكية:
ازداد اهتمام الولايات المتحدة بالكويت مع إنتاج النفط، وخصوصًا في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، مع ازدياد دورها زعيمة للمعسكر الغربي. وتتمثل الوثائق الأمريكية فيما يلي:
أ- العلاقات الخارجية للولايات المتحدة
U.S. Foreign Relations:
وهو كتاب سنوي صدر لأول مرة في عام 1861، ويشمل تقارير ومراسلات السفارات والمفوضيات الأمريكية في العالم. ويصدر كل عام في عدد من المجلدات يخصص كل مجلد - أو جزء منه - لمنطقة جغرافية معينة.

ب– إدارة الأرشيف والسجلات القومية:
National Archives and Records Administration:
وهو الأرشيف القومي بمدينة واشنطن العاصمة. ويلاحظ أنه لا يوجد ملف خاص عن الكويت يغطي الفترة قبل عام 1949. وابتداءً من هذا التاريخ، فإن للكويت رقمًا مستقلاً وهو D86.
ويلاحظ أن أمور الكويت كانت تتم متابعتها بواسطة القنصل الأمريكي في البصرة حتى 27 يونيو عام 1951 وهو تاريخ وصول السيد دنكن (Enoch S. Duncan) أول قنصل أمريكي في الكويت. وصدر أول تقرير عن القنصلية الأمريكية بالكويت في 8 يوليو عام 1951.
جـ- نشرة الوثائق التي رفع الحظر عنها
Declassified Documents:
وهي نشرة دورية تتضمن الوثائق الرسمية الأمريكية التي تم نشرها وفقًا لقانون حرية المعلومات (Freedom of Information Act). وبمراجعة هذه الدورية تبين أنه ليس فيها ما يفيد عن الفترة التي يغطيها الكتاب.
ويلاحظ أنه بينما تتسم التقارير البريطانية بالإيجاز والتركيز على الوقائع والمعلومات، فإن تقارير القناصل الأمريكيين كانت أكثر إسهابًا وتفصيلاً من حيث التحليل. كما يلاحظ أن التقارير الأمريكية في النصف الأول من فترة الخمسينيات أظهرت اعتماد الدبلوماسيين الأمريكيين على الوكيل السياسي البريطاني وموظفيه مصدراً للمعلومات.
3– الوثائق الكويتية:
تمت تغطية «الكويت اليوم» التي تصدرها دائرة المطبوعات والنشر، وكانت بمنزلة الجريدة الرسمية لحكومة الكويت. وقد صدر العدد الأول منها بتاريخ 11 ديسمبر 1954 وكانت تصدر كل يوم سبت حتى العدد السادس والتسعين الصادر بتاريخ 30 نوفمبر عام 1956 حين تغير موعد صدورها، فصارت تصدر يوم الأحد.
4– المقابلات الشخصية:
خلال السنوات الماضية التقيت عددًا من الأشخاص الذين عملوا مع الشيخ وطلبت منهم تسجيل ذكرياتهم عما عاصروه من أحداث خلال عملهم، كما قمت بمقابلات مع عدد آخر منهم للتحقق من بعض الوقائع والأحداث.
5– المراجع:
استفدنا من عدد كبير من الكتب والمؤلفات والبحوث العلمية التي تحلل التطور السياسي والاجتماعي في الكويت على النحو التالي:
أ– ملخصات الرسائل الجامعية الدولية
Dissertation Abstracts International (DAI)
وهي قاعدة معلومات تضم رسائل الماجستير والدكتوراه المقدمة إلى الجامعات الأمريكية والأوروبية باللغة الإنجليزية.
ب– الملف الاجتماعي (Social File)
وهي قاعدة معلومات تضم البحوث المنشورة في دوريات العلوم الاجتماعية.
ج- الملخصات التاريخية:
(Historical Abstracts):
 وهي قاعدة معلومات تغطي البحوث المنشورة ذات الطابع التاريخي.
د– الكتب المنشورة باللغة الإنجليزية:
وبالذات تلك التي ألفها بعض الأجانب الذين عملوا بالكويت، وهي مسجلة في قائمة المراجع.
هـ- الكتب والبحوث المنشورة باللغة العربية، وهي مسجلة في قائمة المراجع. وتمت الإفادة من عدد من المكتبات العربية الكبرى في الكويت ومصر ولبنان وسوريا.
6– الصحف والمجلات:
مثلت الصحافة مصدرًا أساسيًا للمعلومات، وتمت الإفادة من عدد كبير من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية. فتم الاطلاع في مصر على جرائد: الأهرام، والأخبار، والجمهورية، ومجلات: المصور، وآخر ساعة، والاثنين، وروز اليوسف. وفي لبنان على جرائد: اليوم، والنهار، وصوت الأحرار، وصوت الشرق، والأيام، وبيروت المساء، والسياسة، ومرآة الشرق الأوسط، والحياة، ومجلتي الصياد وصوت العروبة. وفي سوريا: على مجلة النقاد وهي مجلة أسبوعية صدرت خلال الفترة من أكتوبر عام 1949 إلى نوفمبر عام 1957. وفي الكويت: على مجلة البعثة الشهرية التي صدرت عن بيت الكويت بالقاهرة وكان عددها الأول في ديسمبر عام 1946، واستمرت في الصدور حتى أغسطس عام 1954، ومجلة الرائد التي صدرت شهريًا خلال الفترة من مارس عام 1952 إلى يناير عام 1954 عن لجنة الصحافة والنشر بنادي المعلمين بالكويت، ومجلة حماة الوطن الشهرية التي صدرت عن القوات المسلحة الكويتية، وصدر أول عدد منها في أكتوبر عام 1960.
وبعد... فلقد استغرق إعداد هذا الكتاب أكثر من ثلاث سنوات. ولقد كانت المهمة في البداية غاية في الصعوبة، غير أن تصميمي على إتمام هذه المهمة المحببة إلى نفسي وقلبي وإسهام عدد كبير من الأصدقاء والمقربين إلينا وتشجيعهم جعلت في النهاية من هذا العمل حقيقة. ويصعب عليّ أن أتقدم بالشكر شخصيًا لكل من أسهم في هذا العمل فعددهم كبير وإسهاماتهم متفاوتة، ولكنهم يعلمون جميعًا كم أقدر لهم ما قدموه، فلهم جزيل التقدير والعرفان... غير أنني أتحمّل وحدي مسؤولية أية أخطاء أو قصور، وأقدم للقارئ سلفًا اعتذاري عن الخطأ غير المقصود.
وأخيرًا، فإنني أتمنى أن يضيف هذا العمل المتواضع للمكتبة التاريخية الكويتية مادة جديدة تحفز الباحثين على متابعة البحث والتنقيب، فالتاريخ هو ضمير الأمة الذي هو باقٍ على مرور الزمن.

والله ولي التوفيق
سـعاد محمد الصباح

الكويت، سبتمبر 1995