الخميس، 20 أغسطس 2015

سعاد الصباح وورودها الغاضبة بقلم‏ : ‏فاروق شوشة



http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/4/9/SSHWSHA.jpg
لم يعرف تاريخ الشعر العربي شاعرة بكت زوجها بعشرات القصائد كما فعلت الشاعرة الكويتية المقتحمة سعاد الصباح‏,‏ منذ رحيل زوجها عبد الله مبارك الصباح حتي اليوم‏,‏ وهي تهدي اليه ديوانها الجديد‏:‏والورود‏..‏ تعرف الغضب بهذه الكلمات‏:‏ الي رفيق البسمة والدمعة‏,‏ إلي صديق سنوات العمر الجميل‏,‏ الي أبي الروحي‏,‏ الي روح زوجي عبد الله مبارك الصباح في ذكراه التاسعة‏.‏

والذي صنعته سعاد الصباح هو‏-‏ أولا‏-‏ لمسة وفاء في زمن عز فيه الوفاء‏,‏ يكفي أن نتذكر كلمات ناظم حكمت الشاعر التركي العالمي‏:‏ إن موتي القرن العشرين لم يعودوا يشغلوننا لأكثر من عام‏.‏ ولكن الذكري التاسعة للرحيل لاتزال تفجر في وجدان الشاعرة ينابيع ثرة‏,‏ فياضة‏,‏ يتزايد مدها الجارف عاما بعد عام‏,‏ علي عكس ما يحدث لغيرها ممن يقلبون الصفحة سريعا‏,‏ ويعيشون يومهم‏,‏ بدلا من استدعاء الامس‏,‏ وكل أمس‏,‏ بكل ذكرياته وتجاربه وومضاته وعنفوانه‏.‏

والذي صنعته سعاد الصباح‏-‏ ثانيا‏-‏ أنها أضافت إلي مشروعها الشعري فضاء جديدا تلتمع فيه الدموع القصائد‏,‏ والقصائد الدموع‏,‏ وضيئة كحبات اللؤلؤة‏,‏ صافية مقطرة‏,‏ كل حبة منها وكل دمعة‏,‏ قطرة طل شعرية‏,‏ تفيض نداوتها من ثنايا لغة شفيفة رائقة آسرة‏,‏ وتنضح أوراق أغصانها شجنا وانعطافا واهتزاز وتر أسيان‏:‏

أعرف بين رجال العالم رجلا‏-‏ يشطر تاريخي نصفين‏-‏ أعرف رجلا يستعمرني‏-‏ ويحررني‏-‏ ويلملمني‏-‏ ويبعثرني‏-‏ ويخبئني بين يديه القادرتين‏.‏ اعرف بين رجال العالم رجلا‏-‏ يشبه آلهة الإغريق‏-‏ يلمع في عينيه البرق‏-‏ وتهطل من فمه الامطار‏-‏ أعرف رجلا‏-‏ حين يغني في أعماق الغابة‏-‏ تتبعه الاشجار ـ أعرف رجلا أسطوريا‏-‏ يخرج من معطفه القمح‏-‏ وتخضر الأعشاب‏-‏ يقرأ ما بين الاهداب‏-‏ ويقرأ ما تحت الاهداب‏-‏ ويسمع موسيقي العينين‏-‏ أمشي معه‏,‏ فوق الثلج‏,‏ وفوق النار‏-‏ أمشي معه‏,‏ رغم جنون الريح وقهقهة الإعصار‏-‏ أمشي معه مثل الأرنب‏-‏ لا أسأله أبدا‏..‏ أين؟أعرف رجلا يعرف مافي رحم الوردة‏,‏ من أزرار‏-‏ يعرف آلاف الاسرار‏-‏ يعرف تاريخ الانهار‏-‏ ويعرف أسماء الازهار‏-‏ ألقاه بكل محطات المترو‏-‏ وأراه بساحة كل قطار‏-‏ أعرف رجلا‏..‏ حيث ذهبت‏-‏ يلاحقني‏,‏ مثل الاقدار‏.‏ أعرف بين رجال العالم رجلا‏-‏ مر بعمري كالإسراء‏-‏ قد علمني لغة العشب‏-‏ ولغة الحب‏-‏ ولغة الماء‏-‏ كسر الزمن اليابس حولي‏-‏ غير ترتيب الاشياء‏,‏ أعرف رجلا‏-‏ أيقظ في أعماقي الانثي حين لجأت اليه‏-‏ وشجر في قلبي الصحراء‏.‏

هذا الشعر هو السهل الممتنع‏,‏ يظن الجاهل أنه يمكنه ان يأتي بمثله‏,‏ لكنه أبدا لا يستطيع‏,‏ لان وراء هذه السهولة‏,‏ وهذه السلاسة‏,‏ وهذا التدفق‏,‏ رحلة معاناة طويلة مع الكلمة حتي لانت وأصبحت طيعة‏,‏ ورحلة شعرية حافلة بالتجريب والمغامرة‏,‏ تنطلق من أفق الي أفق‏,‏ ومن مدي الي مدي‏,‏ ومن فضاء الي فضاء‏,‏ زادها روح مفعمة بالكبرياء‏,‏ ويعصمها من الزلل حساسية شعرية مرهفة‏,‏ تميز بين الشعري واللا شعري‏,‏ وتعرف المشي بخطوات واثقة علي البرزخ الفاصل بين تخوم النثر وتخوم الشعر‏,‏ وتؤكد في كل مرحلة من مراحل ابداع هذه الرحلة‏,‏ أن توهجها يتصاعد‏,‏ ودورها المسئول‏-‏ في عزفها المنفرد علي ربابة كويتية‏-‏ لايزال ينتظر منها المزيد‏,‏ وهي تهتف في ختام ديوانها الجديد‏:‏ أريد ان أفجر الوقت الي شظايا‏-‏ أريد ان استرجع العمر الذي‏-‏ خبأته في داخل المرايا‏-‏ أريد أن أصرخ‏-‏ أن ألعن‏-‏ ان احتج‏-‏ أن أقتل تاريخا من العطور‏,‏ والبخور‏,‏ والسبايا‏-‏ أريد ان أهرب من رطوبة الحريم والتكايا‏-‏ أريد ان أهرب ممن حللوا دمايا‏.‏

هذه شاعرة تصنع‏-‏ ثالثا‏-‏ صورة مغايرة للمرأة الشاعرة‏,‏ تحمل قدرها علي كفيها‏,‏ وهي تعلم علي أية أشواك تمشي‏.‏ وتعرض نفسها لآلاف السهام التي لا يؤمن أصحابها بدور الشاعرة المتمردة الغاضبة‏,‏ ولا بحقها في البوح حينا‏,‏ والصهيل أحيانا أخري‏:‏ أريد أن أصادق الريح وأن أعانق الغيوم‏-‏ أريد أن أقتحم الشمس وأن أسرق آلافا من النجوم‏-‏ أريد أن أحرض الاشجار كي تمشي‏-‏ والغابات كي تركض‏-‏ والجبال كي تقوم‏.‏ أريد ان أقول كل لحظة‏,‏ فمن فمي‏-‏ حين أقول‏-‏ تطلع الكروم‏.‏

وسعاد الصباح‏-‏ رابعا‏-‏ شاعرة لم تخرج من جلد قبيلتها وخليجيتها وواقعها‏,‏ هي بنت هذا كله وشاهدة عليه‏,‏ ومتجاوزة له بالوعي والانفتاح والرفض والتمرد‏,‏ وتكتب ما تكتبه عن وعي بلغة الشعر وجمالياته وكيميائه وعناصره الفنية‏.‏ باحثة طيلة الوقت‏-‏ وبعد صوتها المسكوب في العديد من دواوينها المتلاحقة‏-‏ عمن يفهمها‏:‏ أريد من يفهمني‏-‏ كي أكتب الشعر‏-‏ وكي أخترع الاشياء في الكلام‏-‏ وكي أري‏-‏ حين أنام‏-‏ أجمل الاحلام‏-‏ أريد من يشدني من يدي‏-‏ يوما‏,‏ ويرميني علي ضفائر الغمام‏.‏

 ‏فاروق شوشة
الاهرام

43588‏السنة 130-العدد2006ابريل9‏11 من ربيع الأول 1427 هـالأحد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق