الأربعاء، 4 أكتوبر 2017

لوحات سعاد الصباح .. أعماق لونية لشمس داخلية





علي المسعودي

في القصر الأبيض.. في زاوية حالمة منه تليق بإحساس شاعرة عربية ركضت في براري الشعر طويلا.. وداعبت شموس المجد كثيرا.. هناك خارج أوزان القصيدة لكنه داخل دائرة الشعر بشكل ما.. تجلس سعاد الصباح عن يمينها ألوان وأمامها لوحة كبيرة تسألها عن الخيال الذي يتحول إلى واقع..
قد ترسم أكثر من لوحة في يوم..
وقد تمضي أياما في رسم لوحة أخرى..
وقد بدأت سعاد الصباح الرسم في بواكير شبابها.. وراوحت بينه وبين الشعر مثلها مثل كثير من الشعراء مثل خالد الفيصل وبدر بن عبدالمحسن وميسون القاسمي الذين اهتموا باللوحة والشعر معا.. بينما اهتم نزار قباني بفنون الخط في موازاة الشعر.
وقد برزت سعاد الصباح كشاعرة ولم تظهر اعلاميا كفنانة في مجال التشكيل والرسم.. ومحاكاة الطبيعة.
لكنها تعتز كثير بلوحاتها.. وته=علقها في جدران القصر الأبيض في الكويت وفي بيتها اللؤلئي في مجيف.

يقول الناقد الفني فيصل سلطان:
تأتي سعاد الصباح الى عالم اللون من فضاء بعيد، هو فضاء الذكريات الضائعة الزاخرة بالوعود على امتداد خط القلب. فهي تجاهر في مجموعتها الشعرية 'والورود تعرف الغضب'، انها بدوية تختزن في ذاكرتها عصورا من القهر وتختبئ تحت جلدها ملايين الشموس.
وكلما اختزنت الشاعرة تجاربها اقتربت من المنطلقات التي تتلاءم وقول الشاعر الفرنسي بودلير 'ان الحداثة هي ان نعود الى جذورنا.. جذور الشمس التي في داخلنا' وكذلك قول اديب مصر الشيخ محمد عبده 'نحن ديوان كلمات والغرب ديوان هيئات، وقد آن لديوان الكلمات ان يستفيد من ديوان الهيئات'.
لم يكن ديوان الهيئات سوى تلك الرسوم السرية التي انتجتها سعاد الصباح في الخفاء في عزلتها في الريف البريطاني. ربما لتؤكد من خلالها ان ما كان يوما حقيقيا، يبقى الى الابد ممكنا، وان الحياة والفن هما هبة لا نستطيع ان نفصل انفسنا عنهما. لذا تختلط عوالم لوحاتها بأصداء الذكريات التي تتبع من نسيج سيرتها الذاتية والتي تستعيدها كرغبات لونية اشبه بغمامات البخور، التي تأتي من ازمنة الحالات الشعرية، حيث تمتزج مؤثرات الامكنة الواقعية بتخيلات امكنة الخواطر، الاحلام، وامكنة الذكريات
.
زمن التذكر: زمن الحرية
اللافت ان تجارب سعاد الصباح الفنية بدأت منذ ست سنوات برسم تجليات لموضوع اواني الزهور، حيث الحضور اللوني الآسر لباقات الورود الحمراء الواقفة وسط رعشة خفية من النور في اوان قاتمة، فقد حملت تلك المواضيع رموزا لرؤى شعرية بصرية ظهرت في ديوانها من خلال تشبيه المرأة العاشقة بالزهرة، فالورود التي تنسقها كل صباح هي هبات محبة لزوجها الراحل الشيخ عبدالله المبارك، وهي ايضا هدايا حنين لطيف روحه، الدائم المثول والتماهي في حياة العائلة، رغم سنوات الغياب الطويلة، هو الامير وفارس الاحلام الذي شطر تاريخ حياتها الى نصفين تماما كما تنشطر اوراق النبات في خطوط اشبه بخطوط العمر.
جاهرت سعاد الصباح في قصائدها ان زوجها كان يصفها بوردة البيت وبركته، وانه قطف لها من حديقته اجمل وردة. لذا اوقفت باقات الورود والزهور في لوحاتها على حافة الذكريات، لتومئ من خلالها بنوايا الاشكال كرغبات هائمة سريعة الزوال. فهي تستلهم في رحيق هيئاتها رائحة الماضي، ومرايا رؤاه وانواره الشعرية الصافية. وهذا ما يفسر سر مواظبتها على الرسم الدؤوب لعوامل الزهور والورود كمتتاليات تذكارية، تدمج بين الطيف الواقعي للاشكال والحركة اللونية الغنائية والسرابية للفضاء المحيط بها. كما لو انها متتاليات اختراق شعري - بصري في ثنائية الاحتمال: احتمال لقاء الدفء العاطفي للشكل - الرمز مع سراب تداعيات الالوان كذكريات. ذكريات تنبثق وتنفتح من جديد ومن غير تعمد في فضاء اللوحة.
هكذا تتنوع تجاربها في صياغة لوحات الطبيعة الصامتة لنماذج من اواني الزهور والورود. والنماذج ما هي الا تمارين لونية للارتقاء الشعوري مع اصوات الصمت، اصوات تسكن الرؤية من جهة ومحفوظات الشاعرة من جهة اخرى كحالة وجودية. فالتخيل الشعري يحيلنا دوما الى اعماق لونية جديدة للشمس الداخلية، للظل والنور، اي للاعماق التي تنبع من منظور انتروبولوجي مع باقات المشاعر الذاتية (اللاارادية والتلقائية والعفوية) التي تمتزج بشفافية لونية مع ايماءات الشكل المرسوم ومتهيئاته.
فمرور النتاج الفني من ابواب التداعيات الى فسحات المشهدية - الغنائية، اي من اجواء الغريزة الحلمية - الرمزية 'الى الحساسية' السردية - الصافية، يجعل هذا النتاج الذي تزاوله في الخفاء اشبه بحالة دفاع عن النفس. اذ ان العلاقة الجدلية بين الانا واللاوعي تجعل من باقات الزهور مصدرا للقبض على اشارات الذكريات الهاربة، التي تعيش حالة رومانسية تعوم وتطفو وتطل كقصائد عاطفية ملونة.
زاولت سعاد الصباح الرسم والتلوين كحاجة ذاتية، او كمدعاة للشفاء من وجع الغياب، وكخلاصة لادراك حسي وجودي لطقوس الشكل في الزمن الضائع، ادراك اشبه بالملاطفة والابتهال لما يحتويه من دلالات واوهام ومصالحة من الواقع. كما لو ان اللوحة هي الوجه الآخر ليوميات الصمت والغربة، يوميات الظمأ الى الاشياء الحميمة والى اعماق شقوقه الحافلة بطيبة الحياة وأحزانها.
من هذا المنطلق آثرت أن تمنح أزهارها وورودها نورا مرتعشا وهدأة شاعرية، بعدما أدركت مافيها من كوامن الفرح والوجع، فبدت كما لو أنها تظهر ونسة الأشياء ورهبة مثولها، في نظرة خاطفة وحقيقية، كجمرة مشتعلة من الذكريات.
على نحو قولها: 'انه عندما تفتح رسائلها القديمة وتقرأها لم تعرف أنها كانت تلعب بالنار'.
هكذا تجلى اللعب بالنار في فنها حين زاوجت مابين العين المفتوحة والقلب المفتوح كي تصبح هي واللون واحد' انسجاما مع المقولة الشهيرة لبول كلي'، لاسيما عندما أدركت ان المرئي اللوني الذي يحمل أصوات الصمت يمكن أن يتجسد كمنظور موسيقي خام يترجم الأحاسيس العميقة وأن العين التي ترى تخيلات ألسنة اللهب، لهب المشاعر، تتجاوب مع النبض الإيقاعي لأصداء الذكريات. عندها يتحرر الشكل من علاقته مع الزمن ويتخذ أبعادا نفسية أكثر ديمومة وخلودا. فقد اكتشفت ان في الطبيعة الصامتة سرا شبه بالأعجوبة والسحر، لأنها تبعث الحياة في الذكريات،كما تكشف بتناغماتها اللونية حوارات سرية إلى العلن.
أصبح للطبيعة الصامتة فضاء خاص وثيق الصلة بعوالمها الشعرية، منذ راحت ترسم بعفوية عوالم الورود دون تخطيط مسبق. فالمواضيع المألوفة تأتي من أحاجي الشعر وأوهامه، وهي ترسمها كرسائل حب إلى سيد الأمكنة'كما تصف زوجها'. لذا بدت سعاد الصباح في لغتها التصويرية كما لو أنها وبين هيئات الورود هوس وبوح وأسرار. هوس تجلى في لوحاتها من كشوف قراءة الضوء، سواء كان خارج الأشياء أو في داخلها، مما أتاح لها تحليل سرالمعادلات اللونية لا النظر إليها ونسخها وملامستها من الخارج.
هكذا غدت أجواء العزلة في الريف البريطاني في فنها حب التخيل والتوهم اللوني لحركات الضوء، الذي اعتبرته فاتحة الدخول إلى معرفة الأشياء ومعرفة الذات.
لوحة المنظر: التكامل الأسمى للذكريات
بحثت سعاد الصباح عن رؤى تتجمع وتتفرق مع إطلالات النور ورحيله.
فالركيزة الأساسية التي انطلقت منها في رسومها للمنظر الطبيعي تجسدت في محاولاتها الدؤوبة لاستعادة أحلامها، لذا دخلت إلى عالم المنظر بذهنية المتذكر وليس بذهنية
المشاهد، ،هذا ما جعل مناظرها نابعة من ذاكرة لونية ذات طابع أشبه بقوس قزح. إذ أن مناظرها مشغولة بإحساس طفولي بريء ينحو إلى التعبيري الغنائي ذي الروحانية الملهمة التي تحمل الكثير من البشائر والوعود، لما فيها من رهبة وحضور لوني مهيب. تقول في إحدى قصائدها: 'باسم كل مايملية اللون الأخضر لك ولي أدعوك إلى الصعود إلى المركب ثانية، فالبحر جميل والآفاق التي لم نعرفها أروع من الآفاق التي عرفناها، والمشاوير التي تمشيها أحلى من المشاوير التي مشيناها'.
غاصت سعاد الصباح في تحليل الأبعاد الجمالية للوحة المنظر واعتبرتها مدخلا لرؤيتها الشعرية الثاقبة لمعرفة مكنونات عوالم الألوان وفك رموزها وترجمة خفاياها. وهذا ما جعلها في استنفار دائم حيال إنتاج فني، شكل الحدث بمظهره التقني ومحتواه الجمالي فالأعمال التي قدمتها كرسوم مرافقة لديوانها 'رسائل من الزمن الجميل'. جاءت أشبه بقصائد بصرية تتراقص فيها إيقاعات الألوان كقوافي الشعر وخفق الموسيقى، فإذا بنا فجأة امام تجربة تعبيرية متنوعة ومتفاوتة في أدائها.
فاللون هنا له قيمة روحية نستدل بواسطتة على حرارة المشاعر ووهج الذكريات. وأهميته أن مولود الهدوء والتأملات العميقة. فهو مشحون بعاطفة تبحث عن فواتح الضوء وخواتيمها، وعن نذور الأرض واستغراقها المحموم باللون، كما لو أنها تبحث في مناظرها عن تجليات واقع مستعاد وتخيلات بلا ضفاف. لذا لم تعد محاكاة النموذج'المنظر' هو الغاية بل نقطة البدء، لاستعادة ذكريات الحقبة الجميلة من حياتها. فالارتماء في أحضان الطبيعة لم يكن سوى محاولة لغمس الهموم بهواء نقي وفسحات آمنة، فسحات تجسدت في رسومها من خلال العلاقات اللونية البكر والمناظر الخلابة للسهول والجبال والبحار والسحب المتناثرة.
فالطبيعة في هذا المقام لم تعد نزهة بل ذريعة،فالأرض وأنفاسها اللونية تظهر وثيقة الصلة بحدائق السعادة، وهي الجسر الذي يمدها بالطمأنينة والدفء والأرض تكشف لها أسرار الصمت وألغازه وغموضه وإيماءات ذكرياته. لذا تجاهر سعاد الصباح في ديوانها بعلاقتها التطهرية مع الطبيعة فتقول: 'أخرج من أحلامي وأنا مغتسلة بأضواء الفجر، اغتسل باللون الأزرق وفي ذاكرتي أمطار من الألوان، وان الجغرافيا لا تغير شيئا من طبيعة عشقي.. وأن كل محاولاتي'الفنية والشعرية' ليست سوى للاختبار كالعصافير في سواد عينيك'. 
على هذا الأساس تظهر سعاد الصباح شاعرة في الفن وفنانة في الشعر. فهي ترسم بالكلمات في شعرها الحافل بالشوق والحنين والرؤى ولايسع الشاعرة ان تنقلها سوى بالعالم الملون للوحة الطبيعية. وهذا ما يفسر سر انزلاق المنظر في رسومها نحو الحدس الشعري والفطري الصافي. الحدس التخيلي الذي يقفز فيما وراء العقل والمنطق دون اي حاجز كي تصبح الطبيعة بين يديها كائنا لينا يسمع ويستجيب، فهي في لمساتها تبحث عن الزمن الضائع والزمن الآتي، تتحدث مع اعشاب السهول وتمتطي زرقة السماء وتطير بعيدا مع الغيوم الشاردة باحثة عن شجرة الحياة ومقاماتها. فهي لا تصور هيئات المناظر بشكل واقعي دقيق ولا تسرد تفاصيل حكايات الذكريات بل توقظ الاسرار النائمة في الاشياء حولها. تحركها بريشتها كي تتفتح وتقبل نحوها.
مسافرة عبر الزمن 
الزمن ينحسر ويولي مدبرا، وهي تواظب على النظر خلفها الى ما كان وتتصوره انه كان. المنظر يتكرر وليس من جديد آت، انما سير الى الوراء حيث ملاذ الارض المباركة وانوارها المليئة بالرجاء. فالنور هو انبعاث ليقظة الذكريات ويقظة خبايا القلب، هو العلامة الاستدلالية للقيام من رقاد مجدد للقوى. لذا تتناوب سعاد الصباح في رسومها على اظهار المنظر كتقويم لوني متنساسق ومتجدد، في حالات سطوعه واحتدامها واشعاعاته وانحساراته. كما لو ان المنظر في ينابيعه اللونية الملهمة كأمكنة الذكريات، هو حالة استطلاع واستدعاء واستقبال لمدرج النور، هو حالة وصل وايصال لكل الالوان الخبيئة في حواشي القلب.
تومىء سعاد الصباح في رسوم مناظرها بحال الخلاص، من خلال الارتماء في فضاء من الهدوء المتفجر على حين، باحثة في ملاعب الضوء عن سلام داخلي في ألغاز الالوان التي تطربها وتشعرها بالنشوة. لذا تتواطأ مع ايقاعات لمساتها اللونية وتسترسل على هواها وتحلق بفطرية وارتجالية عفوية كي تعبر وبكثير من الحرية عن بيانات السعادة في حكايات العمر. فاللون هو مملكة الشعر هو اللمسة القابضة على رعشة الذكريات كرسائل من الزمن الجميل.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق