الأحد، 20 أكتوبر 2013

أنت الحضارة يا سعاد



لا أدري لماذا لا أتمتع بالشعر كثيراً هذه الأيام، هل هو دليل على تدهور الشعر أم تدهور قدرتي على الاستمتاع والاستيعاب؟ بيد أن حبة منشطة أعادت لنفسي لا متعة الشعر فقط بل الشوق إليه أيضاً. كانت هذه الحبة المنشطة ديوان سعاد الصباح الأخير " امرأة بلا سواحل" أجد من واجبي الإشارة على كل الكافرين بالشعر، أن يحصلوا على نسخة منه ليعيدوا لأنفسهم الإيمان به.
العنوان " امرأة بلا سواحل" يذكر القارئ بأوبرا فاغنر "الهولندي الطائر" ولكن بدون ذلك الصخب الفاغنيري. فأشعار سعاد الصباح خفيفة الظل، ناعمة الملمس، تدخل القلب والعقل بدون استئذان. هكذا على الأقل توغلت في عقلي وأثارت تفكيري بكلماتها الافتتاحية:
(فرق كبير بيننا. . يا سيدي
فأنا الحضارة والطغاة ذكور)
هذه كلمات تصلح كشعار عام للحركة العالمية المعروفة بحركة الأنثوية "فمنزم" والتي يظهر أن الشاعرة أصبحت من روادها في العالم العربي.
الكلمات تثير التفكير. هناك منطلقات أساسية في مسيرة الحضارة. كل هذا الازدهار العلمي الذي نراه لم يكن ممكناً بدون هذا الاختراع البسيط وهو الصفر "في الرياضيات". وكل هذه التكنولوجيا الجبارة لم تكن ممكنة بدون اختراع العجلة، كلاهما أخذهما الغرب منا بدون أن يدفعوا فلساً لنا عن براءة الاختراع.
على غرار ذلك نقول، كل هذه الحضارات والمدنيات لم تكن ممكنة لولا اختراعين أساسيين، هما العائلة واللغة. وكلاهما من اختراع سعاد. بالنسبة للأول كانت هي التي ولدت الأطفال وجمعتهم حولها وسهرت على نموهم ونضوجهم فنشأ حول هذه الخلية كيان العائلة في حين كان الرجال يجرون في الخلاء وراء الصيد والاقتتال. هكذا دخلت البشرية مرحلة الأمومة. بيد أن الرجل سرعان ماالتفت إلى ماأنجزته سعاد فقام بانقلاب عسكري واستولى على كل شيء وحول المرأة إلى أجير مستعبد هكذا دخلنا مرحلة الأبوة وكان ضمن ما استولى عليه الرجل "اللغة" التي سبق لسعاد أن طورتها ووضعت أسسها في مناغاتها لأولادها وتبادلها الحوار مع الخلايا العائلية الأخرى المجاورة لها. استولى الرجل على هذين الاختراعين الأساسيين للحضارة دون أن يدفع لسعاد فلساً واحداً عن براءة الاختراع.
بيد أن هذين الاختراعين الأنثويين لم يكونا المساهمة الوحيدة التي قدمتها سعاد لقصة الحضارة. يقوم الكثير من فصول هذه القصة على الاكتشافات الجبارة التي أنجزها الإنسان. اكتشاف أمريكا وأستراليا والقطب الجنوبي. . الخ. وكذلك الاكتشافات الطبية الحاسمة. اكتشاف المكروب وذبابة التسي تسي وبعوضة  الانوفليز . . الخ. كل هذه الاكتشافات لم تكن ممكنة لولا نقنقة المرأة في البيت وصياحها وعراكها الذي جعل الرجل يهرب من وجهها في البيت ويفضل قضاء وقته مع ذبابة التسي تسي في المختبر، أو يركب السفن ويذهب ليفتش عن مكان آخر لا تستطيع امرأته أن تصل إليه. فأي رجل عنده ذرة من العقل يرحل إلى القطب الجنوبي ويتحمل برده وثلوجه ورياحه أو يتوغل في مجاهل افريقيا ويواجه سباعها وتماسيحها ووحوشها، لو كان عنده في البيت زاوية يستطيع أن يأوى إليها في هدوء وسلام، دون أن تنغص عليه امرأته صفوه وراحته؟!
قصة الحضارة هي قصة المرأة. وديننا لها لا حدود له، في سلبه وفي ايجابه. وهل من إسهام في هذه القصة أروع مما تقدمه لها سعاد الصباح. في شعرها ونثرها ودعمها لكل ما يمت ، وأحيانا لا يمت ، للحضارة بصلة.                      

خالد القشطيني


الشرق الأوسط 17 يناير 1995  / العدد 5894 – الصفحة 24

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق