الاثنين، 30 ديسمبر 2013

جمال العربية - بقلم: فاروق شوشة

جمال العربية

        
سعاد الصباح تشدو لـ «سّيد الحبّ»



- من أنتِ؟
- أنا امرأة من فضاء بعيدْ
ونجم بعيدْ
فلا بالوعود ألينُ
ولا بالوعيدْ
- من أنتِ ثانيةً؟
- بدوية أنا أختزن في ذاكرتي
عصورًا من القهر
ويختبئ تحت جلدي
ملايينُ الشموس
- من أنتِ أخيرًا؟
تُجيبنا سعاد الصباح:
- أنا النخلةُ العربيةُ الأصول
والمرأة الرافضة لأنصاف الحلول
فبارك ثورتي

          هذه هي سعاد الصباح، شاعرة الكويت، كما يتألق صوتها

في مجموعتها الجديدة: «والورود تعرف الغضب». التي تهديها إلى:
«عبدالله المبارك، زوجي ومُعلّمي، وصديق العمر الجميل، في يوم ذكراه».
وتتردد كلمات هذا الإهداء ومفرداته في مقدمة كثير من قصائد الديوان،
مع بعض التغيير في مواضع حبّات هذا العقد الفريد من عقود الوفاء،
 والإخلاص، والارتباط الحميم، الذي تتصاعد حرارته عامًا بعد عام،
 وديوانًا بعد ديوان، وهي تقول: «إلى رفيق البسمة والدمعة،
إلى صديق سنوات العمر الجميل، إلى أبي الروحي،
 إلى روح زوجي عبدالله مبارك الصباح، في ذكراه التاسعة».
          تسع سنوات، لم يُحسّ بلذعتها وحدّة دورانها ووقع إيقاعها سواها.

هي المشدودة إلى كهف الذكرى لا تفارقه، سجينة مخزون هائل من الذكريات،
 لا يُبارحها ولا تبارحه، تستدعي بالرؤية والرؤيا، صورًا متلاحقة،
 ومواقف محتشدة، وكونا تخلخل وتداعي برحيل من تُسمّيه سيد الحب،
 سيّد هذا العالم، رجل الكبريت والنار، الرجل المُستعمِر، الرجل البحّار، 
رجل التاريخ، الرجل العاصفة، تقول سعاد الصباح:
أعرف بين رجال العالم رجلاً
يشطرُ تاريخي نصفين
أعرف رجلا، يستعمرني
ويُحرّرني
ويخبئني بين يديْه القادرتين

***
أعرفُ بين رجال العالم رجلاً
يشبهُ آلهة الإغريقْ
يلمع في عينيْه البرق
وتهطلُ من فمه الأمطار
أعرفُ رجلاً
حين يُغنّي في أعماق الغابة
تتبعهُ الأشجار

*** 
أعرف رجلاً أسطوريًا
يخرج من معطفه القمحُ
وتخضرُّ الأعشاب
يقرأ ما بين الأهدابِ
ويقرأ ما تحت الأهدابِ
ويسمع موسيقى العينيْن
أمشي معه، فوق الثلج، وفوق النار
أمشي معه،
رغم جنون الريح وقهقهة الإعصار
أمشي معه مثل الأرنب
لا أسأله أبدًا: «أين»؟

*** 
أعرف رجلاً
يعرف ما في رحم الوردة من أزرار
يعرف آلاف الأسرار
يعرف تاريخ الأنهارِ
ويعرف أسماء الأزهار
ألقاه بكلّ محلاّت «المترو»
وأراه بساحة كلّ قطار
أعرفُ رجلاً... حيث ذهبتُ
يلاحقني، مثل الأقدارْ

***
أعرفُ بين رجال العالم رجلاً
مر بعمري كالإسراء
قد علّمني لُغة العشبِ
ولغة الحبِّ
ولغة الماءْ
كسرَ الزمن اليابسَ حولي
غيّر ترتيب الأشياءْ

***
أعرفُ رجلاً
أيقظ في أعماقي الأنثى
- حين لجأتُ إليه -
وشجّر في قلبي الصحراءْ!

          وراء كل هذه المقاطع، وبين ثناياها، حنين هائل،

 وافتقاد وجوديّ عاصف، ورغبة عارمة في الاحتماء من
 أعاصير ما بعد الرحيل، وبرودة ما بعد الفراق، ووحدة السنوات الموحشة،
 تتداعى واحدةً بعد الأخرى، وتهوي طرقاتها العنيفة، مع كلّ وقفةٍ وتأملٍ والتفاتة.
          هذا الشعور بالافتقاد، يغمر جوّ الديوان كلّه بأطياف اللون البنفسجيّ

 ودرجاته، وتتجلى في رسوم الشاعرة التي جاورت قصائدها،
حزينة بالرغم من ألوانها الصارخة وكأنها ردٌّ على طقس الموت
 والرحيل، بالرغبة في تأكيد صور الحياة والنماء، يتدرج
 فيها اللون الأرجوانيّ كدمٍ مسكوب، ويتوهج الأخضر من تحت أقنعة 
العزاء والمواساة، محاولاً تأكيد حضوره في المشهدين: الشعريّ واللوني.
          القصائد لوحات مرسومة، واللوحات قصائد مكتوبة، والقصائد

 اللوحات تشكّل في عناقها الحزين، محاولة لتجسيد قامة إنسانية 
تشمخ في وجه المعاناة، وتنكسر في داخلها لوعةً ومشاركة. تقول سعاد الصباح:
لك الشكر يا سيدي
فمنك تعلّمت كيف أثقف ذوْقي
ومنك تعلمتُ كيف أُثقّف عقلي
وكيف يكون كلامي على مستواك
وشكلي على مستواك
وكيف، إذا ما ذهبْنا معًا للعشاءْ
أكون، حبيبي، على مُستواك
وكيف أكونُ أمام الرجال أميرة
وبين النساء أميرة!

*** 
لكَ الشكر، يا سيّدي
فأنت الذي صُغْتني من جديد
وأنت اخترعْتَ مقاييس جسمي
كما كنت يومًا تريدْ
وأنت رسمْت مساحة خَصْري
وأنت نَحتَّ رُخامة فكري
وأنت غسلْتَ بماء البنفسج ثغري
وأنت كتبتْ تفاصيل عُمري
كما كنت يومًا تريد
وأغنيت روحي
وأغنيْتَ فكري
وأطْلقتني كاليمامةِ
نحو البعيدِ... البعيدْ!

***
أنا امرأة صنعتْني يداكْ
فأصبح صوتي امتدادًا لصوْتك
وأصبح رأيي انعكاسًا لرأيك
وأصبح نبضي سريعًا كنبْضِك
أحبُّك
حتى غدوْتُ من الحبِّ
نُسْختك الثانية
بكلّ حُضوركَ
كلَّ جموحِكَ
كلِّ طفولتكَ العاتية
وكلّ عواصفِكَ الاتيةْ

***
أيا سيد الحبّ
ليس هنالك بين الرجالِ سواكْ
وليس هنالك شمسٌ تضيءُ
وبحرٌ يفيضُ
وطيرٌ يطيرُ
بغير هواكْ

***
أيا سيد الحبِّ
مازلتُ تلميذةً تسيرُ وراءَ خُطاك
فيا ليتني ذاتَ يومٍ أنالُ رضاكْ
ويا ليتني أستطيعُ الوصول بحبي إلى مستواكْ
لك الشكرُ
يا من فتحْتَ عُيوني
على عشرات الشئون الصغيرة
أنا قبل حُبِّكَ، ما كنتُ شيئًا
وأصبحْتُ بعد هواكَ الكبير، كبيرة!

          هل يضيف هذا الديوان الجديد، جديدًا إلى ما حققته سعاد الصباح

 من خبرة جمالية وفنية، وما تألق به صوتها من صيحات التحرر والتمرد
 والغضب، وما حلمت به - في أطرٍ شعرية مُحكمة - من عالم النهضة والتغيير،
 والدفع بمجتمعها ووجودها الإنساني، المنغرز كالرمح، في قلب
هذا المجتمع، إلى فضاء الحرية، وأفق التجاوز؟
          أجل، بكل تأكيد. يضيف هذه المساحة الواسعة من ترويض الشجن،

 وأَنْسنة الفقْد، واستدعاء الغامض والمبهم، يأتي ولا يأتي.
          وهو يحمل إلينا، عبر صفحاته، لغة سعاد الصباح، في طورها

 الأصفى والأنقى. بسيطة من غير زينة أو تبرج أو طلاء،
 منسابة ناعمة، في حدّة السيف الباتر، نافذة إلى قرار القلوب والأكباد.
          وهو يؤكد وعي سعاد الصباح الشعري، بدورها

وموقعها، في ركب الحركة الشعرية المعاصرة، وهي تشعل فيها
من نارها وشجْوها وارتطامها اليومي بالكون والحياة والناس،
 وتُخلص لقصيدتها إخلاصها لكل ما تُقدسّه وتُحبِّه وتثق فيه وتُؤْمن به.
          من هنا يتألق صوتها الشعري والإنساني، عندما تكون

 أقرب ما تكون إلى هموم المرأة الكويتية، وسجلْ نضالها
المتتابع الحلقات والدوائر، وهي تُغذي هذا الانتماء الحميم في
 شعرها - للأرض والوطن - بيقين لا يتزعزع وإرادة لا تلين:
أريد أن أعيش تحت معطف المنون
أريد أن أعيش في دائرة الزلزالِ
لا دائرة السكونِ
أريد أن أعيش في عيون الناسِ
لا عيوني..

*** 
أُريد أن ألبس في تنقّلي
قُبعة الرّعودْ
أريد أن أدخل في شريان من أودّهُ
يومًا، ولا أعود
أريد أن أهرب بعض الوقتِ
من بلادة الصيف
ومن عفونة الكهْفِ
ومن وصاية الجدودْ
أريد أن أخترع الوقت الذي يُعجبني
أريد أن أزرع فكري
خارج التاريخ والجغرافيا
وخارج الحدودْ

***
أريد أن أصادق الريحَ
وأن أُعانق الغيوم
أريد أن أقتحمَ الشمسَ
وأن أسرق آلافًا من النجوم
أريد أن أُحرّض الأشجار كيْ تمشي
والغابات كي تركضَ
والجبالَ كيْ تقومْ
أريد أنْ أقول، كلْ لحظةٍ
فمنْ فمي - حين أقولُ -
تطلعُ الكروم

***
أريدُ من يفهمني
لتطلع الأزهار من أُنوثتي
ويكثر الحَمام
فحين يأتي الحبُّ، يأتي الخيرُ والسلامْ
أريدُ من يفهمني
لأقلب العالم من أساسِه
وأقلبَ الشهور والساعاتِ والأيام
أريدُ من يفهمني
كيْ أكتب الشعر،
وكي أخترع الأشياء في الكلامْ
وكي أرى - حين أنام - أجمل الأحلام
أريد من يشدّني من يدي يومًا
ويرميني على ضفائرِ الغمامْ

***
أريدُ أن أقول ما أقولهُ
من دون أن يتبعني السيّافْ
ودون أن أُدفنَ في قبرٍ من العاداتِ والأعرافْ
أريدُ أن أهرب من بشاعة التجّار في البازار
ومن مزاد اللونِ، والأجناسِ، والخُصور، والأردافْ

*** 
أريدُ أن أُفجّر الوقت إلى شظايا
أريدُ أن أسترجع العُمْرَ الذي
خبّأْتُهُ في داخل المرايا
أريدُ أن أصرخَ،
أن ألْعنَ،
أن أحتجَّ،
أن أقتل تاريخًا من العطور والبخور والسّبايا
أريد أن أهرب من رطوبة الحريم والتكايا
أريد أن أهرب ممن حلّلوا دمايا

          ولقد فجّرت سعاد الصباح الوقت، وفجّرت لغة القصيدة،

 وتناثر عطرها الشعري على مساحات واسعة من المكان والزمان.
والذين يقرأونها يتزايدون.
والذين يفهمونها يتزايدون.
ويطالبونها بالمزيد من ضفائر الغمامْ!.




مجلة العربي
العدد 584 - 2007/7 - أبواب ثابتة - فاروق شوشة

فاروق شوشة   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق