الأحد، 10 مارس 2013

حقوق الإنسان في الإسلام والفكر السياسي الحديث



بقلم: د. سعاد الصباح 


لا شك في أن التطور الهائل الذي نشهده الآن في ما يتعلق بتعزيز حقوق الإنسان وايجاد السبل المناسبة لكفالة الاحترام الواجب لها، هو نتاج تفاعل نوعين من الأفكار: فمن ناحية، هناك الأفكار السامية التي جاءت بها الأديان السماوية والتي حثت، كمبدأ عام، على وجوب احترام حقوق الأفراد جميعاً على قدم المساواة، ودونما تفريق بينهم على أساس من الانتماء الديني أو العرقي أو بسبب الاختلاف في النوع أو اللغة، أو أي اعتبار آخر.
ومن ناحية ثانية، هناك الأفكار التي تمثل خلاصة فكر واجتهادات الباحثين والمفكرين والفلاسفة على امتداد التاريخ الإنساني وعبر الحضارات والثقافات الإنسانية المختلفة.
ومؤدى ذلك، أن أي محاولة لفهم الأصول الأولى لمجمل القواعد المتعلقة بحقوق الإنسان، ينبغي أن تنطلق أساساً من هذين المصدرين الفكريين: الأديان أو الأفكار الدينية، من جانب، وتطور الفكر البشري، من جانب آخر.
وبما أن رسالة الإسلام هي الرسالة الخاتمة لكل الرسالات السماوية، فضلاً عن كونها رسالة عالمية شاملة، وأن هذا الموقف، في جوهره، لايكاد يختلف من دين سماوي إلى دين آخر، لذا فقد يكون من الضروري أن نعرض أولاً لتصور الإسلام لحقوق الإنسان، ثم نعقب ذلك بالإشارة إلى إسهام الفكر الفلسفي والسياسي الحديث في هذا الموضوع.





أولاً : الإسلام وحقوق الإنسان
كانت الأديان السماوية – اليهودية والمسيحية والإسلام- أول من وضع الأساس الفكري أو النظري لحقوق الإنسان فهذه الأديان هي التي حثت أتباعها على احترام حقوقهم المتبادلة، وعلى عدم التمييز في المعاملة في ما بينهم. بل لعلّنا لا نبالغ إذا قلنا بأن الأفكار الدينية كانت بمثابة "المباديء الاسترشادية" التي سار على هديها العديد من النظم السياسية والقانونية في ما بعد. وليس أدلّ على ذلك، مثلاً، من أن ما نصت عليه المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948، من عدم جواز التمييز بين الأفراد لاعتبارات خاصة بالجنس أو الأصل الوطني أو العرقي أو الديني أو بسبب الانتماءات السياسية، لايعدو أن يكون تكراراً لما شددت عليه الأديان السماوية قبل ذلك.
ويمكن معالجة موقف الإسلام لحقوق الإنسان من خلال التركيز على مداخل رئيسية أربعة نعرض لها في ما يلي :

1.   الإسلام والإنسان بصفته فرداً
الأصل في الإسلام أن الإنسان له مكانة خاصة يتقدم بها على الكثير من مخلوقات الله تعالى. وهذا المعنى هو الذي تشير إليه الآية الكريمة : " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً" .
وقد نظر الإسلام إلى الإنسان الفرد نظرة مزدوجة: فهو من ناحية، يعتبر وحدة فريدة ومتميزة، أي هو في ذاته كل واحد. ولكن، ومن ناحية ثانية، اعتبر الإسلام هذا الفرد جزءاً أصيلاً من كيان مركب هو الجنس البشري. وانطلاقاً من هذه النظرة المزدوجة، يُعتبر الفرد في الإسلام أهمّ وحدة في الكون. وهو، لذلك، يُولد حّراً ومتمتعاً بكامل الحقّ في الاختيار ولا ينبغي إجباره أو حمله قسراً على القيام بتصرّف معيّن إلاّ في حدود مقتضيات النظام العامّ الذي يقوم عليه بنيان المجتمع ومصلحة كل أفراده. ومن أجل ذلك ايضاً لم يفرّق الإسلام بين الفرد المسلم والفرد غير المسلم الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية في ما يتّصل بالحقوق الأساسية للمواطنة، ومن أمثلتها: الحقّ في حماية الحياة والشرف والملكية، حّرية الفكر والتعبير والمعتقد، الحقّ في التنقل داخل أقاليم الدولة، الحق في التمتع بحرية التجمع والاجتماع، الحق في ممارسة العمل المناسب . . .

2.   الإسلام وعلاقة الفرد بالدولة
يمثل فهم موقف الإسلام لمسألة علاقة الفرد بالدولة التي يعيش في كنفها أو ينتمي إليها برابطة الجنسية، أحد المداخل المهمة للوقوف على كنه التصور الإسلامي لحقوق الإنسان بصفة عامة.
إن الأصل الذي تُبني عليه هذه العلاقة، بحسب التصوّر الإسلامي، يتمثّل في مبدأي الحرّية والعدالة. أما مبدأ الحرية، فمؤداه أن الأفراد الأحرار وغير المكّبلين بالقيود هم فقط القادرون على الدفاع عن كيان المجتمع، وأن هذه الحرية، وما ينبثق عنها من حرّيات أخرى فرعية، هي جزء أساسي ولا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة إلى هيكل النظام العامّ، فضلاً عن كونها تشكل مدخلاً هامّاً لتحقيق رفاهية الجماعة. وأما مبدأ العدالة، فمؤداه أن كل الناس متساوون عند الله.
وإضافة إلى مبدأي الحرية والعدالة، تقوم علاقة الفرد بالدولة في الاسلام على مبدأ التضامن أو الأخوة. فكما أن الفرد مسؤول أو راع في نطاق عمله وأسرته ـ بحسب ما ورد في الحديث الشريف ـ فإن المجتمع بدوره (أي مجموع كل الأفراد الآخرين الذين يتشكل منهم هذا المجتمع) مسؤول عن توفير الظروف المواتية التي تكفل لهذا الفرد التمتع بمجمل الحقوق والحّريات الأساسية التي ينبغي أن يتمتع بها كل فرد يعيش في جماعة منظمة.
وبعبارة أخرى، إن علاقة الفرد بالدولة أساسها المسؤولية الاجتماعية المشتركة التي قوامها، من ناحية، أن المجتمع لا يشكل بأي حال وحدة مستقلة تماماً عن الفرد، ومن ناحية أخرى، أن هذا الفرد هو عنصر مهمّ في المجتمع وقائد فيه في الوقت ذاته.


3.   الإسلام وحقوق غير المسلمين في إطار الدولة الإسلامية

بداية، تجدر الإشارة إلى أننا لا نسعى هنا إلى التعرض تفصيلاً للأحكام الخاصّة بمعاملة غير المسلمين من مواطني الدولة الإسلامية، وإنما نهدف، بالدرجة الأولى، إلى إلقاء الضوء على الملامح العامة المتعلقة بالإطار النظري لهذه المسألة، وذلك انطلاقاً من التصور الإسلامي لحقوق الإنسان.
وأول ما يلاحظ بشأن حقوق الإنسان غير المسلم في إطار الدولة الإسلامية، أن الإسلام قد وضع عدة مباديء حاكمة، يمكن إيجاز أهمها فيما يلي :
-       أولاً : هناك المبدأ الذي يقضي بأن كل الذين يعيشون في كنف الدولة الإسلامية من غير المسلمين يحق لهم التمتع بكل الحقوق والحريات المكفولة للمسلمين وبدون أي تمييز بسبب العرق أو الدين أو الأصل الوطني. ولا يُستثنى من نطاق هذه الحقوق إلا تلك التي تتعلق بالولاية القضائية.
-       ثانياً: هناك المبدأ الذي يكفل لغير المسلمين التمتع بالحق الكامل في المساواة مع مواطنيهم المسلمين أمام القانون. ومعنى ذلك، أن غير المسلمين ممن يعيشون كمواطنين في الدولة الاسلامية ليسوا خارج نطاق الولاية القضائية لهذه الدولة على نحو ما كان يفعل الرومان بالنسبة إلى الغرباء أو من هم ليسوا من أصل روماني.
-       ثالثاً: هناك المبدأ الذي يقضي بأن غير المسلمين الذين يعيشون في كنف هذه الدولة يتمتعون بكامل أهليتهم القانونية كمواطنيهم المسلمين سواء بسواء. والواقع، أن هذا المبدأ هو الذي استرشدت به الدساتير الحديثة في الدول عامة عندما حرصت على النص بوضوح على أن جميع مواطني الدولة متساوون أمام القانون.
وكما تقدم، تعتبر حرية ممارسة الشعائر الدينية، ومسائل الأحوال الشخصية، وحماية الحق في الحياة وفي التملك وفي العمل من أهم الأمثلة على حقوق الإنسان وضماناتها التي كفلها الإسلام لمواطني الدولة التي ترفع لواءه وتعلو فيها كلمته، لا فرق في ذلك بين المسلمين منهم وغير المسلمين.

4- حقوق الإنسان في التصور الإسلامي: دراسة لبعض التطبيقات
من الضروري الإشارة، باديء ذي بدء، إلى أن ما تضمنته الاتفاقات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان من مباديء وأحكام في ما يتعلق بهذه الحقوق، لا يعتبر تطوراً مستحدثاً، يستوي في ذلك أن يكون حديثنا منصرفاً إلى مجموعة الحقوق المدنية   والسياسية أو إلى مجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الثقافية. فالثابت، أن الفكر الديني – والاسلامي منه خاصة – قد سبق كل هذه المواثيق والاتفاقات الدولية وقدم تصوراً متكاملاً لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
ومع أننا سنعود لتناول ماهية هذه الحقوق وتلك الحريات في القوانين والنظم السياسية الوضعية، إلا أنه من المفيد – ونحن نعرض للتصّور الإسلامي لحقوق الإنسان – أن نُشير إلى أهمّ تطبيقات هذه الحقوق بحسب هذا التصّور.
أ‌)       كفالة حق الإنسان في الحياة
يُعتبر حقّ الإنسان في الحياة من أثمن الحقوق التي شدّد عليها الإسلام. ولعلّ من أبرز مظاهر هذا التشديد ما يلي:
-       تحريم القتل تماماً بدون وجه حقّ، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحقّ".
-       تغليظ العقوبة التي يجب توقيعها على من يرتكب جريمة القتل دون وجه حقّ. فقد جعل الإسلام عقوبة من يرتكب هذه الجريمة هي القصاص منه هو نفسه، وذلك مصداقاً لقوله تعالى:" مَن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً"، وكذا قوله تعالى: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن، والسنّ بالسنّ، والجروح قصاص . . . ".
-       كذلك، فإن من مظاهر تشديد الإسلام على كفالة حقّ الإنسان في الحياة، أن هذا الحقّ يمتدّ ليشمل الأبناء حتى وإن كانوا لم يولدوا بعد، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقهم وإيّاكم . . . "، وقوله، جلّ شأنه:" ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإيّاهم . . . ".
-       إن تحريم القتل لا ينصرف بحسب المفهوم الإسلامي إلى قتل الغير فحسب، وإنّما ينصرف ايضاً إلى قتل الإنسان نفسه بنفسه، وذلك امتثالاً لقول الله تعالى : " ولا تقتلوا أنفسكم . . . " ولقول الرسول (ص): " من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً. ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو متردِّ في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً".
غاية القول، إذاً، أن الإسلام قد أحاط حقّ الإنسان في الحياة بكل الضمانات الواجبة التي تحميه، وباعتبار هذا الحقّ لا يهمّ الفرد نفسه فحسب وإنّما يهمّ أيضاً، وبالقدر نفسه، المجتمع برمّته.
ب‌)   الحق في الأمان والطمأنينة
لم يقف التصور الإسلامي لحقوق الإنسان عند حماية حق كل فرد في الحياة، بل تعدى ذلك إلى التأكيد على وجوب أن تُكفل لهذا الفرد الحياة والعيش في أمن وأمان، وبحيث لا يكون قلقاً على حاضره ومستقبله. ولعلّ الخطبة الجامعة التي ألقاها الرسول (ص)، في حجّة الوداع، تحمل معاني سامية وذات دلالات خاصة فيما يتصل بهذا الحقّ.
فقد شدّد الرسول الكريم (ص)، في هذه الخطبة – مخاطباً المسلمين جميعاً – على:   "أن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا . . . " وكذا قوله(ص)، في موضع آخر:" كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه".
ولكفالة هذا الحقّ في الحياة في أمن وطمأنينة، كان طبيعيّاً أن ينص الإسلام على الضمانات الواجبة والتي بدونها يصير الحقّ المذكور لا قيمة له. ومن أمثلة هذه الضمانات:



-       تحريم السرقة لما فيها من اعتداء على أمن الفرد وطمأنينته، خاصة وإنها من نوع الجرائم التي تتمّ عادة في الخفاء وتحمل في طياتها طابع الخيانة والغدر.
-       تشديد العقوبة على كل من تسول له نفسه إثارة الرعب في قلوب الأفراد، فجعل جزاءهم هو ما اشتملت عليه الآية الكريمة: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم".
-       تعظيم حرمات الأفراد وأعراضهم. ومن ذلك مثلاً: تحريم الزنا وتشديد العقوبة عليه وبالذات في حالة المحصن، وذلك لما فيه من مساس  بأمن الناس على اعراضهم. ومن أمثلة تعظيم هذه الحرمات أيضاً، التأكيد على خصوصية الحياة الخاصّة لكل فرد وحرمة مسكنه. وفي هذا الإطار، نهى الإسلام اتباعه عن تتّبع عورات بعضهم بعضاً، كما نهى عن سوء الظنّ وعن التجسّس والغيبة، كما نهى عن دخول بيوت الغير- مما قد ينال من حقهم في الحياة في سكينة وأمن – بدون استئذان، وذلك مصداقاً لقوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها".

ج) الحق في كفالة حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية
يمثّل الحقّ في حريّة العقيدة وحّرية ممارسة الشعائر الدينية لكل أفراد المجتمع،  والذي تؤكد عليه اليوم المواثيق والاتفاقات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، مبدأ حاكماً في الشريعة الإسلامية، وذلك امتثالاً لقوله تعالى: " لا أكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي . . . "، وكذا قوله، جلّ شأنه: " ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"، وأيضاً قوله، سبحانه: " وما على الرسول إلا البلاغ".
   وإعمالاً لهذه القاعدة، ترك الإسلام الحق كاملاً لكل إنسان في أن يعتنق ما يشاء من العقائد، وأتاح له كل الضمانات التي تكفل التمتّع بحقّ ممارسة العقيدة التي يختارها بإرادته الحرّة. 
    ومؤدى ذلك، أن الإسلام نظر إلى حرّية العقيدة التي هي اليوم تمثل حقاً أصيلاً من حقوق الإنسان وحرّياته الأساسية – باعتبارها مسألة شخصية بالدرجة الأولى . ولا ينال من هذا الحق ما قد يراه البعض من أن الإسلام قد ألزم أتباعه بواجب الدعوة، بمعنى دعوة غير المسلمين لاعتناق الدين الاسلامي وترك معتقداتهم السابقة. فالصحيح، أن مثل هذه الدعوة إنما تتم بالحسنى ودونما ضغط أو إكراه مادي أو معنوي، وبحيث إذا تمسك أصحاب المعتقدات الأخرى بمعتقداتهم وأبوا الدخول في الإسلام فإن ذلك لا يجب أن يكون مدعاة للافتئات على حقوقهم سواء باعتبارهم مواطنين يعيشون في كنف الدولة الاسلامية أو أجانب يقيمون على أرضها بصفة مؤقتة.
  وتأسيساً على ذلك، فقد أصبح لغير المسلمين في الدولة الإسلامية الحقّ في أن يمارسوا شعائرهم الدينية وأن يعلنوا عن معتقداتهم وأن تكون لهم دور العبادة الخاصّة بهم التي توفر لها الدولة الاحترام الواجب. كل ذلك، بالطبع، في الحدود التي لا تتعارض مع مقتضيات حماية المصلحة العامّة للمجتمع.

د) حرّية الرأي والتعبير   
تدخل حرّية الرأي والتعبير هذه أيضاً ضمن نطاق الحقوق والحريات الأساسية للإنسان. وقد كان للإسلام فضل كبير في التأكيد على أهمية هذه الحرية وفي لزوميتها للإنسان باعتباره فرداً يعيش في جماعة منظمة.


وممّا يلفت النظر في هذا الخصوص، أن الشريعة الإسلامية لم تكتف باعتبار حرية الرأي والتعبير حقّاً أصيلاً من حقوق الإنسان، وإنما اعتبرتها أيضاً أحد الواجبات الأساسية التي يتعين على الفردالمسلم الاضطلاع بها. فالمسلم ليس حرّاً في أن يمارس حرّيته في إبداء الراي أو لا يمارسها، وإنما هو ملزم بذلك. فالساكت عن الحقّ – أي عن قول الحقّ – هو في نظر الشريعة شيطان أخرس. والآيات القرآنية الدالة بوضوح على هذا المعنى كثيرة، نذكر منها، مثلاً، قوله تعالى: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخيـر ويأمـرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، وقوله، جلّ شأنه: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر"، كما حث الرسول الكريم (ص)، المسلمين على ممارسة حقهم في التعبير وفي إبداء الرأي، ودعاهم إلى عدم التردد في المجاهرة بآرائهم وبألا يكون الواحد منهم إمعة: " يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت . . ".
على أن الإسلام في حرصه على وجوب ممارسة حرّية الرأي والحقّ في التعبير، شدّد في الوقت ذاته على بيان أن مثل هذه الممارسة لا ينبغي النظر إليها باعتبارها مطلقة من كل قيد أو بدون أية ضوابط. فحيث أن الفرد لا يعيش في جزيرة معزولة وإنما يعيش في جماعة ويتفاعل مع بقية الأفراد الآخرين الأعضاء في هذه الجماعة، فمن المنطقي أن تكون حرية كل واحد منا في إبداء الراي والتعبير عن فكره مقيدة بقيود، منها، مثلاً: وجوب ألا يكون الفرد في ممارسته لهذه الحرية متجاوزاً أو مغتصباً لحقوق الآخرين وحرياتهم.
ومن هذه القيود، كذلك، وجوب ألا تكون ممارسة الحرية المذكورة سلاحاً لهدم بنيان المجتمع وتفويض الأسس التي يقوم عليها أو النيل، عن عمد، من القيم الأخلاقية السائدة والدعوة إلى شيوع الفاحشة بين الناس.






إذاً، فحرّية الرأي وحق التعبير اللذان أكد عليهما الإسلام وحث على وجوب ممارستهما بل أعتبر أن ممارستهما أمراً لازما، إنما هما اللذان يبغيان تحقيق الدرجة المناسبة من التوازن بين مصالح الأفراد – كل على حدة – من جانب، ومصلحة المجتمع في عمومه، من جانب آخر.  
وما يصدق على موقف الإسلام من حرية الرأي والتعبير، يصدق أيضاً وبالقدر نفسه على حرية الفكر والاجتهاد. فقد حث الإسلام أتباعه على أهمية التدبّر والتفكير في كل ما حولهم، بل إنه اعتبرأن التفكير دليل على صحة العقل وأن من يعطّلون ملكةالتفكير التي أودعها الله تعالى فيهم إنما هم كالأنعام بل أضلّ. وعلى ذلك، فإن التفكير – في المنهج القرآني – إنما هو سابق على العمل.
ومما يدل على أهمية حرية الفكر ومبدأ الاجتهاد بالرأي في التصور الإسلامي، حقيقة أن الإسلام قد جاءت بعض أحكامه عامّة تاركة التفاصيل لتطوّر الموقف والأحوال. وإزاء سكوت النصوص الشرعية – القرآن الكريم والسنة المطهرة – عن معالجة الجزئيات المتعلقة ببعض أمور المعاملات، كان من الطبيعي أن يقوم فقهاء المسلمين بمحاولة استنباط الأحكام ذات الصلة بهذه الجزئيات مستلهمين في ذلك ما ورد في هذين المصدرين الرئيسيين من أحكام ومباديء عامة.


 - عن كتاب: حقوق الإنسان في العالم المعاصر

هناك تعليق واحد:

  1. دراسة جميلة ومهمة جداا خاصة في هذه الحقبة التي اصبح معظم الذين ينادون فيها بحقوق الانسان يشهرون اسلحتهم في وجه الدين ويسبون الله عدوا بغير علم ..السبب طبعا هو الفهم الخاطئ للنصوص الشرعية .
    .شكرا لك دمت متألقة دائما ودمت نبراسا منيرا


    " للتنبيه"
    هناك خطأ مطبعي في كلمة "حثت " كتبت حست في السطر الثاني من الفقرة الثانية
    تقبلي مروري

    ردحذف