الأحد، 3 نوفمبر 2013

من كتاب الاكليل للأستاذ صلاح الساير




الإكليل



كانت الزبير وهي حاضرة من حواضر جزيرة العرب على موعد في ذلك اليوم مع صرخة الولادة . ومع صلاة المجيء .
نسوة ملفعات بالحذر بالترقب يمشين تحت سور طويل من الطين شاخت ملامحه، وعبر باب خشبي مجّه الوقت..  يدلفن إلى فناء متسع. ومع إندلاع الأسئلة واشتعال الحطب تحت قدر الماء ينجلي دخان عن وجه (دايه) عجوز، تنح بصوت خفيض (المولودة . . بنت)!
وبانت سعاد . . ابنة الشيخ محمد حفيد الشيخ محمد الصباح الحاكم السادس للكويت.
تفتحت عيناها معلنتين بداية رحلة الوجع، والحلم، والوجود. تذهب الطفلة إلى مدرستها في البصرة، حيث كانت تقيم هناك في حضن أمها شيخة أحمد الثاقب وأخوالها "آل الثاقب". أولاد شيخ الزبير ، وتجلس على مقعدها في حجرة الدرس، وتلتقط ذاكرتها رجرجة الماء في الشطوط وشجو بلابل تغني منذ أزمنة عتيقة ونخلة باسقة يتساقط من ضفيرتها رطب شهي.

بعد البصرة انتقلت سعاد إلى الكويت وحملت التلميذة الصغيرة حقيبتها المدرسية وتصميمها على متابعة الدرس وملاحقة الحلم وتتلقى تعليمها في مدرسة حملت اسم الشاعرة العربية "الخنساء" وبعدها في ثانوية "المرقاب"   ويطبع الخليج في مخيلتها رقرقة مائه الأزرق ونوارسه البيضاء وهمهمات صيادي السمك العائدين مع المغيب.
في عام 1960 تزوجت الشيخة سعاد الصباح من الشيخ عبدالله المبارك الصباح أصغر أنجال (مبارك الكبير) مؤسس دولة الكويت الحديثة.
وبعد مضي عام من اقتران الشيخة سعاد الصغيرة بالشيخ الكبير دخلت البلاد في دوامة من التطوارت  قبيل استقلال الكويت.
واستقال الزوج من مناصبه العليا التي من أهمها منصب (نائب الحاكم) وقرر ساكن القصر الأبيض في منطقة (السرة) أن يوصد أبواب قصره ويشد رحاله إلى خارج الكويت مودعاً في الوقت ذاته حياتها السياسية.
رحلة الاغتراب هذه بكرت بوميض الموهبة.. وتفجرت سعاد شعراً.

 أصدرت من بيروت عام 1962 ديوانها الأول "ومضات باكرة" وبعده بعامين أصدرت ديوان "لحظات من عمري" ثم تسايلت جداول القريض.
***     



رحلة الماء التي بدأت من  مياه الشط إلى مياه الخليج إلى مياه البحر الأبيض حيث وضعت سعاد ابنها البكر في بيروت عام 1961.
 كانت القاهرة محطة مائية رابعة في تلك الرحلة فيستقبل النيل على ضفافه العائلة المهاجرة.
لم تتحل الشيخة الشاعرة بحليها بل راحت في القاهرة تقلب في صفحات العلم حتى نالت شهادة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية مع مرتبة الشرف عام 1973 وهو العام الذي حمل معه قضاء الله وقدره بوفاة ابنها البكر.
من ماء إلى ماء تفرد العائلة شراع السفر مرة أخرى.. فتبحر إلى ضفاف نهر التايمز لتستقر في لندن. وتتابع سعاد دراستها العليا وتحصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد عام 1983.

في السبعينيات بدأت قطوف عرائشها تتدلى.. بعد أن اكتملت مراحل التشكل الشعري والفكري والعلمي. وعادت الأسرة إلى وطنها الكويت الذي كانت تتردد عليه في شهر رمضان من كل عام، وعاد الشيخ "عبدالله المبارك" ساكن القصر الأبيض إلى قصره.      



إن كان الشيخ عبدالله المبارك الصباح قد ركب موهبة رجل الدولة ولم يركب موهبة الشعر.. فإنه استطاع أن يكتب قصيدته المتمثلة في زوجته الشاعرة "سعاد الصباح" التي اتخذت من استقرار عائلتها في موطنها الكويت قاعدة للانطلاق في فضاءات الشعر والغوص في بحوره.
لم تسترح فوق أريكة وثيرة تحت شهادة مصلوبة على جدار قصر فخيم كتب داخل إطارها (د. سعاد محمد الصباح) فالطفلة التي حملت ذاكرتها ماء الشط وماء الخليج، وماء البحر الأبيض المتوسط وماء النيل وماء التايمز وملأت السمع والبصر.
وقفت سعاد الصباح بسيوفها وقصائدها وحاربت مثلها مثل الكويتيين جلهم في الخندق العربي مع العراق.. حتى استدار الخائن على إخوته وحدثت فاجعة الكويت، عندما غزاها العراق واندلعت نيران الخيانة بأثوابها الطاهرة.
مضت الفارسة في دروب النزال، وركبت أفراسها تقاتل من أجل استعادة وطنها السليب.
 ومول زوجها الشيخ عبدالله مبارك إذاعة كويتية في لندن، ونشر جناح الخير ليطوي في فيئه الكويتيين في بقاع من الأرض مختلفة. وقدم الأثنان فلذة كبديهما للكويت فانخرط ابنها "محمد عبدالله مبارك الصباح" في جيوش تحرير بلاده الكويت. وعاد إلى الوطن الحبيب ضياؤه الأول.
وتحت سحب الدخان الأسود التي ملأت سماء الكويت المحررة بعد إحراق العراق آبار النفط الكويتي. شيعت سعاد زوجها الذي توقف قلبه في لندن بعد أشهر معدودات من تحرير وطن عمل له طويلاً وشارك في إرساء دعائم مؤسساته الحديثة.
نشرت الشيخة الدكتورة سعاد الصباح ديوانها " برقيات عاجلة إلى وطني" عام 1995 وضمنت ديوانها "آخر السيوف" الذي صدر عام 1991 مرثياتها لزوجها الراحل الذي وقف وراءها وأسهم في تكوينها ودفعها لتحتل مكانتها تحت الشمس وداخل العيون.
طفلة شيخة ولدت في الزبير وعبرت المياه كلها . . من ماء الفرات إلى الخليج ، إلى البحر المتوسط، إلى النيل إلى التايمز إلى ماء الخليج ثانية.
مجمرة الوجع والحلم والوجود عبرت مياها بأكملها ولكن جمرات الخلق فيها لم تهمد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق