الأربعاء، 13 أغسطس 2014

دمعة.. غير قابلة للترجمة*




في عالم القرية الصغيرة
أصبحت البيوت بلا أبواب.. والأقمار بلا أسرار..
وهذه فرصة مواتية للشاعر لكي يدس همساته - عن قرب - في كل قلب..
فما أجمل أن تكون شاعرا في زمن الاحتلال التكنولوجي
وما أروع أن تكتب الأحاسيس في وقت توقف فيه قلب العالم عن النبض، حتى انتهى زمن الحنين..
آه.. ما أحلى أن تكون وردة في صحراء.. ينتقل شذاها بكل لغة.. ويعرف معناها كل حبيب.
لكن الشعر دوما يحتاج إلى نحلة تنقل رحيقه من مكان إلى مكان..
ولايقوم بهذه المهمة سوى المترجم المتمكن.
ومع كل فعل ترجمة.. أسأل نفسي: إذا كانت المترجم يلغي لغتك، وتراكيبك، ويحملك إلى قراء آخرين.. ماالذي يبقى منك؟ وماهو الشيء الذي يستطيع نقله؟
بالتأكيد.. أن مايبقى هو ذلك الإحساس الحميم..
الترجمة إذن ماهي إلا نقل إحساس من لغة إلى لغة..
أما المتلقي فيعرف جيدا أن الدمعة التي سكبها الشاعر على الورق تستعصي على الترجمة.. ومافعله المترجم ليس  أكثر من استجلاء النص.. وكشف خباياه الحسية للقارئ.. ليكون الصراخ بأكثر من لغة.. وليكون الحب بألف شكل ولون.
الترجمة إذن فعل رائع وعظيم.. وكل مترجم يعمل عمل النحلة بين أزاهير الشعراء ليؤسس لتلاقح ثقافي عالمي..
يكون لأمانة المترجم فيها شأن عظيم.. من حيث أن مثل هذا العمل هو حالة أدبية خاصة.. في سياق أدبيخاص.
فالمترجم ليس ناقلا بقدر ما هو شريك في الإبداع..
فعندما يتوغل في أحاسيس النص.. يكون قد خطى الخطوة الأولى في التماهي مع النتاج الإبداعي
وعندما يشرع في تحويل الأدب من لسان إلى لسان آخر يكون قد فرد جناحا مواجها لجناح المبدع.. ليتحقق الطيران العذب..
 ولأن التطويع أشبه بفعل خيانة.. في الوقت الذي تعد الترجمة فعل أمانة مثلما هي فعل إبداع.. فلايحسن للمترجم أن يقوم بتطويع النص على حسب اللغة المنقولة لها.. غنه بذلك يغتصب المعنى، ويكسر خصوصيته..
إن المترجم أمين على الهجرة التي تقوم بها الأحاسيس من اللغة المنقول منها إلى اللغة والمترجم إليها
وعندما تتم ترجمة بعض أعمالي بين آن وآخر أتذكر أنني من أمة كان لها سبق اقتحام عالم الترجمة منذ قرون طويلة.. حيث كانت منهلا ونبعا للعلم.. نشطت منها فهب إليها المترجمون من كل صوب يشروب من لغة العرب العذبة الحية العميقة المعاصرة لكل زمن والمناسبة لكل علم..
وقد ظل الرحم العربي يلد المبدعين
وبقيت الروح العربية العربية تفتح نوافذها على العالم..
 وأصر المبدع العربي أن يشرع قلبه للآخر عندما عرف  أن الحكمة هي ضالة المؤمن.. فسعى إليها بإيمان، وحب، وإخلاص.. فالعالم الحقيقي هو الذي لايحتكر العلم.. وقد كان علماء العرب أنموذجا فريدا للإيمان بالعصر يحملون لغة حية قادرة على التعبير.. فنشطت الترجمة وتحفز العلماء للنقل والتنقيح والتحقيق..
لقد أنشأ علماء العرب على مدى 12 قرنا الجسر الأول بين مشرق الأرض ومغربها..  وفي هذا العالم ولدت الشمس.. فكان نورها يتغلغل في العقول المتفتحة التي آمنت بالانتفاح على الآخر واستلهام كل العطاءات الإنسانية في نسق واحد.. متجهة إلى هدف واحد هو تعريف الإنسان بنفسه وتحريره من جهله.

ومن منطلق إيماني بأن المبدعين هم حراس القيم.. وقادة تحرير الإنسان.. اخترت أن أكون صوتا للحرية.. في كل الظروف وفي كل الأمكنة.

ذلك أنني لم اكتب لأقرأ نفسي.. بل كتبت ليقرأني العالم.. وعندما يقرأني فإنه حتما  سيسمع في صوت سعاد الصباح آلاف الأصوات
صوت نساء صرخت بالنيابة عنهن
وحنين عاشقات عبرت بالأصالة عن قلوبهن
وبكاء مقهورين.. طالبت بحقوقهم..
وحزن مظلومين.. كتبت باسم أحزانهم
أما الطغاة فلم أكن لهم صوتا في يوم.. بل كنت سوطا يجلدهم.. فهم الوحيدون الذين كانوا لايحبون صوتي
فلم يكرهني إلا طاغية.. ولم يحاربني إلا عدو للحريّة..
كنت منذ البدء أقف في خطوط الجبهة الأولى، وفي خط المواجهة الأول.. وعندما أصدرت ديواني (في البدء كانت الأنثى).. كنت أتعامل مع الكلمة على أنها أنثى، والقصيدة أنثى.. والشمس أنثى (وليس التذكير فخر للهلال).. كما قال منشد الدهر أبوالطيب المتنبي..
وللشعر تحديدا خصوصية شديدة عندما يتعرض للترجمة.. لأنه يقف وجها لوجه أمام اختبار البقاء حيا كما هو، ففي الشعر ليس المطلوب من المترجم نقل المعاني.. فتلك مهمة العلوم التطبيقية..
في الشعر هناك معان ظاهرة وأخرى باطنة.. ولأن نار الشاعر لاتنطفى أبدا.. هناك دائما جمر حي تحت الرماد..
وبقدر إخلاصي للكتابة وللكتاب كنت دائما أعتقد أن الكتاب والإنسان... هما كائنان يتشابهان تشابهاً عظيماً في بنيتهما، وتشكيلهما ووظائفهما البيولوجية، بل إنهما يتشابهان حتى في دورتهما الدموية، وجهازهما العصبي وجهازهما التنفسي.
وكما يمارس الإنسان رياضة المشي، وتسلق الجبال، والسباحة، والتزلج على الماء، والسفر... فإن للكتاب أيضاً هواياته في الإبحار في المجهول، والسفر حول العالم.

كان الكتاب قديساً يعلّم الحكمة وينشر المعرفة، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور.. ولابد أن يظل كذلك..

بقي ان أقدم كل الشكر والامتنان لمن قام على مشروع الترجمة هذا.. وكم أنا محظوظة بفيض المحبة الذي غمروني به وكم أنا سعيدة باهتمامهم وتفهمهم.. وأشعر بسعادة تشبه سعادة نورس حلق فوق البحر بكل حيوية.. ثم انقض والتقط سمكة.. ثم حلق إلى الفضاء بنشوة الملوك..
وما الشعر سوى التقاط خاطف
أو برق مفاجيء يذهب من الروح إلى الروح..
وها أنا نورس كويتي يطير فوق الضفاف الكورية.. هذا البلد الرائع الذي أنتج روعته إنسان أخلص لثقافته وأتقن عمله..
وتقبلوا مني كل الحب..

د. سعاد الصباح


 * مقدمة كتبتها الدكتورة سعاد الصباح بمناسبة ترجمة عدد من أعمالها إلى اللغة الكورية
2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق