الثلاثاء، 5 أغسطس 2014

البندقية والريشة.. (مقدمات كتب)



بقلم: د. سُعَاد محمّد الصّبَاح



كثيرة هي أسماء العسكريين التي تحفظها الكتب تخليداً لأعمالهم في ميادين القتال على اختلاف فنونه، من الاستراتيجية إلى أدوات الحرب ومعاركها المتميزة بخصوصية العبقرية في المواجهة والحسم العسكري. بل إن تاريخ الحروب يبدو في حقبات وكأنه تاريخ العالم نظراً لما حفلت به الأرض من نشاط السلاح وتصادم الجيوش وهدر ملايين الأرواح ودماء المدن وزرع التخلف الحضاري في أرجاء المعمورة لآماد طوال.
والتاريخ العسكري يحفظ للعديد من رجالاته سجلاً سياسياً، إذ أن الكثيرين من هؤلاء قد خلعوا البزّات العسكرية ليتحولوا إلى رؤساء دول، راوحت أعمالهم بين البطش وبين البناء، وأخفق معظمهم في أداء الواجب السياسي – المدني، وقلة منهم هي التي تمكنت من تحقيق إنجاز ما، في مسيرة أوطانهم المدنية.
لكن، هذا التاريخ للعسكريين، قلما يحفظ لنا دوراً ثقافياً لواحد من ضباطه المتقدمين في علوم الحرب. ونحن اليوم، في مواجهة المعادلة التي حققها واحد من رواد حركة التنوير الثقافي في عالمنا العربي، الدكتور ثروت عكاشة. ولعل بواكير الاهتمام الثقافي في حياته ثؤشر ومنذ العام       1951 على التوجه العميق لهذه الشخصية المتميزة، إذ أنه في ذلك العام وضع اللبنة الأولى لمستقبل اهتماماته حين فاز بالجائزة الأولى في مسابقة القوات المسلحة للبحوث والدراسات العسكرية. إذن فالبحث والدراسة والتأليف هي المحور الذي كان يشغل خريج كلية أركان الحرب الذي حمل دبلوم الصحافة ثم شهادة الدكتوراة في الآداب من جامعة "السوربون" الفرنسية العريقة عام 1960. ورغم تقلّبه في العديد من المناصب العسكرية والسياسية إلا أنه منذ العام 1958  اتجه إلى الشأن الثقافي وزيراً ثم استاذاً زائراً بـ "الكوليج دى فرانس" بباريس لمادة تاريخ الفن، وبعدها زميلاً مراسلاً للأكاديمية البريطانية الملكية.
لقد أخذ تاريخ الفن يتسيّد اهتماماته، والحفاظ على التراث يتقدم همومه الثقافية، لذلك نجد أمامنا وزيراً للثقافة يبادر لإنجاز مشروع إنقاذ آثار النوبة ومعبد أبو سمبل ومعبد فيله، والتي كان مشروع السد العالي، على عظمته الاقتصادية والاجتماعية، يشكل خطراً عليها، مما أوجب العمل لإنقاذها، وهذا ما تحقق بفضل الجهد المثابر للرجل الذي اخترنا التشرّف بتكريمه هذا العام. ولو لم تكن للدكتور ثروت عكاشة غير هذه المأثرة المؤرخة لكان يكفيه مجداً، ولكنه ليس بالقانع هو إذ يشهد له تاريخ الثقافة في مصر العزيزة بالمبادرة لإنشاء معاهد السينما والمسرح والباليه والكونسرفاتوار، وتشييد دار الكتب والوثائق القومية وقصور الثقافة وفريقي الأوبرا والباليه.
هذا عدا العشرات من المشروعات الثقافية التي حملت بصمة " العسكري" المثقف والمأخوذ بمشروعه الثقافي في مجرى تاريخ الآثار وخلق الجديد من معالمها. وقد ذاع صيته في ميدان العناية بالآثار فتم اختياره نائباً لرئيس اللجنة الدولية لإنقاذ مدينة فينسيا وتراثها (1969- 1978). وحصل لجهوده الكبيرة على الميدالية الفضية لليونسكو تتويجاً لما أداه من عمل خلاّق  في إنقاذ معبدي أبو سمبل وآثار النوبة، ثم كانت له الميدالية الذهبية من اليونسكو لجهوده المثمرة إنقاذاً لمعابد فيله، وقد ثمنت فرنسا عالياً جهوده هذه فمنحته وسام " جوقة الشرف" العام 1968.
ولم تشغله كل هذه المهام، على جلالها، عن الانصراف إلى التأليف والترجمة والتحقيق، فإذا باسمه علمٌ على ثلاثة وخمسين عنواناً في مختلف مجالات الأدب والتراث والفلسفة والفنون والآثار. ويجدر بمن يقرأ في سيرة رائدنا الجليل التنبّه إلى أنه، وهو المولود في العام 1921، لم يتوقف عن العطاء ولم ينقطع عن الإبداع، أمدّ الله في عمره، وأبقاه مشعل ضوء تستنير به أجيال الطالعين وتسعد به أمة أعطت العالم الحرف وعلّمت الدنيا بدايات التعبير الإنساني بالكلمة وبالصورة الساحرة سمات وألواناً.
اليوم، ونحن نحتفي برائد مبرز من رواد حياتنا الثقافية أقف بإجلال أمام الأستاذ الدكتور والفنان ثروت عكاشة، راجية أن يقبل مني هذا التكريم: تحية عرفان ووفاء لما أدّى ولما سوف يؤدي من أجل وطن أكثر ثقافة وعطاء وبقاء في جبهة الزمن وصدر التاريخ.   


مقدمة لكتاب احتفائي عن د. ثروت عكاشة أصدرته دار سعاد الصباح
              الطبعة الأولى - 1999


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق