الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

عندما تصير الأم وطناً ..

د. سعاد الصباح
د. سعاد الصباح

| د. سعاد الصباح |

في هذا العالم الملوث الذي يحاصرنا، تبقى الأم هي الغابة الخضراء الوحيدة، التي يمكن أن ننام تحت أشجارها الوارفة.
وفي هذا العالم المتخشب العواطف، والنرجسي، والأناني، تبقى الأم هي ينبوع الحنان الوحيد الذي يمكن أن نغتسل بمياهه العذبة.
وفي هذا العالم الذي لم يعد فيه قديسون، ولا أنبياء، تبقى الأم هي الكتاب المقدس الذي يمنحنا الإيمان والثقة وراحة النفس..

وفي هذا العالم المهدد بالإشعاعات النووية، والمسلّح حتى أسنانه، تبقى الأم هي منطقة السلام الوحيدة التي ترفع رايات الرحمة والمحبة.
وفي هذا العالم المادي، الاستهلاكي، الراكض وراء منافعه وملذاته الأرضية، تبقى الأم هي الجزيرة الوحيدة التي تتعاطى زراعة الورد... وصيد السمك... وكتابة الشعر.
وفي عالم عربي يأكل بعضه بعضاً، وتنهشه الأحقاد والخلافات الطائفية والمذهبية والعقائدية، تبقى الأم هي المؤسسة الوحيدة التي تنادي بالحب، وتدعو الأخوة المقاتلين إلى إلقاء أسلحتهم، والعيش المشترك تحت سقف العروبة الواحد...
وفي عالم عربي تخلى عن عبادة اللهّ إلى عبادة نفسه، وتخلّى عن قيمه العظيمة، ومبادئه الأخلاقية التليدة، وميراثه الفكري والحضاري العميق، تبدو الأم وكأنها المرفأ الأخير الذي يمكن للعالم العربي أن يلتجئ إليه للوصول إلى شاطئ السلامة.

فليت العرب يتعلمون من الأم، كيف يحبون بعضهم، وكيف يعانقون بعضهم، وكيف يتعايشون، وينامون تحت سقف واحد.
إن عيد الأم هو مناسبة كبرى نتعلم منه كيف نكون متحضرين... وكيف نكون طاهرين... وكيف نكون مثاليين... وكيف نكون عاشقين.
فياليت رجال السياسة في الوطن العربي يتعلّمون من أمهاتهم، كيف يمارسون الحكم بعدالة، ورحمة، وتجرد، ومساواة.
وليتهم يتعلمون من أمهاتهم، كيف يخدمون الرعية، وكيف يعملون من أجل سعادتها ورخائها، وكيف يحترمون حقوق الإنسان، ويؤمنون له لقمة الخبز... ونسمة الحرية. قد يسألني سائل: وما علاقة عيد الأم بالسياسة والسياسيين؟
وأجيب عن هذا السؤال بأن الأم ليست مدرسة بيولوجية أو عضوية فحسب... ولكنها مدرسة سياسية كبرى يتخرج فيها كل الرجال الذي يحكمون العالم.
فإذا استوحى هؤلاء الرجال من سلوك وأخلاقيات أمهاتهم فإنهم بكل تأكيد سيحكمون شعوبهم بصورة نموذجية.
أما إذا كان هؤلاء الرجال لم يرضعوا حليب أمهاتهم جيداً، ولم يعرفوا الدفء في أحضانهن... فإنهم سيحكمون شعوبهم بصورة شيطانية... ويصبون عليها كل أحقادهم وعقدهم، وإسقاطاتهم النفسية.
إذاً، فالأم ليست مدرسة واحدة... ولكنها مجموعة مدارس وجامعات نتعلم منها جميع ألوان المعرفة، ونأخذ عنها دروس اللغة، والتاريخ، والجغرافيا... كما نأخذ عنها دروس الوطنية والانتماء القومي.



* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق