الاثنين، 5 نوفمبر 2012

تأملات..



                                                                                               لوحة بريشة: د. سعاد الصباح

بقلم:| د. سعاد الصباح |

سمـــيتك الأمل... يا جرحاً في خاصـــرة الـــزمن
سميتك الأطفال (حين يولدون) والريح والبرق والأمطار
سميتك السفينة والبحر والمرافئ
سميتك الوطن...
في داخلي أحطم الآلهة التي صنعتها، والتي أخذت شكل الوثن أمزق كل نص يربطني بالجاهلية القديمة أو الجديدة، وأنزع من جلدي وشم القبيلة النائم في سكينة كالأموات...
حين يكون الماضي شبـــحاً كالـــظل يمـــتد بين القـــبر والقبر... بين ولادتـــنا وموتنا... بيــن البحـــر واليـــابسة... بين الأصـــوات المخـــنوقة في سراديب الكتب العفنة وبين العقول، التي أخذت شــكل الصفيح.
أحرق كتب التاريخ وأتدفأ بنارها...
وأمزق صور الأبطال الكاريكاتوريين. وأدخل كالبرق في لحم اللغة، أخلع عنها ثيابها البالية ومفرداتها القديمة، وأمطر على صحراء حياتنا عالماً مطرزاً بالحلم المستحيل.
وطني جسر من الشهوات يعبر عليه قراصنة هذا الزمن وتهتف له رمال الصحراء، وغبار المدن والأرصدة المكدسة في بنوك أجنبية...
في عيون النساء ألمح قبور الأطفال... وشواهد كتبت عليها بطولات زائفة... البحر يفتح صدرَه لكلماتنا... وكلماتُنا تعيش في عصر آخر.
لا وريث لصوتي في هذا البلد... أعانق وحدتي وأمضي إلى قعر الهاوية... لا صوت للنواخذة.
اليأس قمر يتدلى في سمائنا... والبحر ساكن ميت لا يولد منه اللؤلؤ ولا المرجان... والأرض تحبل كل يوم وتنزف كل يوم... وليس ثمة ولادة... البحر في خاصرتي يتألم... ؟
ضاقت بنا المساحات... وقربت المسافة... وضاق جلدُنا علينا... واستأسد جلادُنا.
للصبر أهداب طويلة... وأقنعة تكبرُ وتضيق.
أيتها الصحراء المضرجة بالجمر... أيتها الأرض الحبلى بالنفط وبالفقر بالتخمة وبالجوع.
يا أرضاً بلون الفجيعة هل من مخاض جديد... 
هل من نبات جديد؟
هل من بعث جديد؟ 
رائحة الجيف تسد أنفي والتاريخ أغسله من الذاكرة... هل من عاصفة تهب لتطرد الرمل عن شاطئ الذاكرة.
مطر... مطر يغسل الخراب، الإيمان والثبات يجعلان داخلي نظيفاً كمولود جديد.
شعبي المأسور في حظيرة... سرقته القراصنة.. والناس يأكل بعضهم بعضاً. الفقر رغيف ساخن تتقاسمه الشعوب... والغنى مظلة للقادرين... والعدل سماء أنسجها من شعاع الغد.
يا وطني... شربت حزنك حتى ارتويت. كيف علمتني الحب... ووحدك أنت الحب؟
لقد شـــربت وشـــربـــت ومــا ارتـــويـــت، وحده حبُك منه ما ارتويت.
ها هي سفينة غربتي ومنفاي تحملني إلى بلاد بعيدة... وأمضي أحمل حقيبة الحزن وحقيبة الوطن... وفي عينيّ يسكن شعبي المشتت على خريطة التاريخ.
ها هي سفينة المنفى تبحر وأنا أحلم بالحب الساكن في الدوالي... وفي رائحة العرق ورائحة البحر... وفي رائحة حبيبي قبل هبوب الريح... وفي ذراعيه عند هبوب العاصفة.
لا أتذكر غير حبيبي أطرز له ثوباً في الذاكرة وأجلس وإياه على شواطي الحنين، والموج وحده يموت ويبعث.
الذاكرة مغسولة بأمطار الوجع... وللحب نكهة النار والجليد... وللوطن رائحةُ الجنة.
* من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن» 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق