الاثنين، 18 يونيو 2012

الكويت مدينة البطولة


| د. سعاد الصباح |



ماذا أقول للكويت؟ وماذا أقول عنها؟
إنني مرتبكة إلى حدود الذهول.
وأنا لا أرتبك إلاّ أمام موقفين، موقف الحب، وموقف البطولة...
هنا ينسى الكلام كلامه، وتنسى اللغة لغتها...
فكيف أدخل في حوار مع هذه المدينة؟
كيف يستطيع الشاعر أن يقف على هذه البقعة الخرافية من الأرض، دون أن يشعر بانعدام الوزن؟
كيف أستطيع أن أواجه أمطار البطولة
وليس معي مظلة؟
كيف أستطيع أن أواجه البروق التي تحرق وجهي وثيابي؟
جئت إليك... مثلما يذهب الحجاج إلى الأماكن المقدسة..
جئت لأستنشق عبير القداسة...
جئت لأتوضّأ بماء البطولة...
جئت لأكمل ديني...
إن قداسة الأمكنة ليست تعبيراً مجرّداً...
فهي تستمد معانيها من ثورة الأرض، وكفاح الإنسان، ومعاناته من أجل الحق، والخير، والحرية.
فقداسة مكة هي جزء من معاناة الرسول محمد ا ، في فجر الإسلام، من أذى المشركين والكفرة، وقداسة بيت لحم، والناصرة، والقدس، هي جزء من معاناة السيّد المسيح على يد اليهود والرومان.
وكربلاء، في العراق، تستمد معانيها من الدماء الزكية التي سالت من جسد الحسين وصحبه من آل الرسول.
ومعارك مثل معارك بدر، وحطّين، والقادسية، دخلت التاريخ، لأنها كانت صراعاً بين قوى الظلام وقوى النور والحرية.
وها هي الكويت تأخذ مكانها في قائمة المدن التي دخلت التاريخ، لأنها لعبت دوراً عظيماً في تغيير مجرى التاريخ.
ومثلما وقفت ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية، كجدار من الفولاذ، وقفت الكويت في وجه الزحف الصدامي لتقاتل بأظافرها، وأسنانها، وبسعف النخل، وأغصان الشجر، وقضبان النوافذ، وأعمدة الكهرباء... ودرّاجات الأطفال... وسكاكين المطابخ.
لم يتخلّف أحدٌ عن بذل دمه...
العصافير أعطت ريشها...
والشجر أعطى أوراقه...
والبحر تبرَّع بمعطفه الأزرق...
والغروب تبرع بدمه البرتقالي...
والنجوم أعطت ضوءها...
والنساء قصصن ضفائرهنَّ... وصنعن منها ضماداتٍ لجراح المقاتلين.
إنني أدخل الوطن، وأنا ملتفة بعباءة من الكبرياء لم ألبس مثلها في حياتي.
أدخلها بخشوع ورهبة، كمن يدخل إلى دير.. أو إلى معبدٍ... لأمارس طقوس الحب، وطقوس الانتماء للتاريخ...
فأنا، كمواطنة عربية، أشعر أنني مدينة للعرب بدين قومي لا أستطيع وفاءه، بأي لغة من اللغات... وما أفقر اللغات أمام بطولة الأبطال.
هذه المدينة البطلة، وأقولها بكل قوّة وإصرار، حمت حاضري ومستقبلي، ومستقبل أولادي.
هذه المدينة الرائعة، كانت الدرع الذي أنقذني من الضياع...
وبعد... فكل مديح لديرتي الكويت، هو أصغر من قامتها... وكل محاولة للثم يديها... شكراً وعرفاناً... تبقى محاولة خجولة ومتواضعة.
ويوم يكتب التاريخ العربي مذكراته... فسيخصّص الصفحة الأولى لهذه المدينة المقاومة.
أتجوّل في الكويت... وعيناي مبلّلتان بالدمع، ودمي مشتعل بعطر البطولات.
صحيح أن مياه البحر... قد احترقت.
وصحيح أن أجنحة الطيور البحرية... قد احترقت...
وصحيح أن ضفائر النخيل... قد احترقت...
ولكن مياه البحر تتجدد، وضفائر النخيل كما ضفائر النساء تطول بسرعة.
ويظل الوطن دائماً سيفنا... ودرعنا... وقصيدتنا الجميلة.


*
من كتاب «كلمات... خارج حدود الزمن» .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق