الأربعاء، 6 يونيو 2012

صباح الخير أيتها الحرّية







 صباح الخير . .  أيتها الحريّة


بعـد مئتين وعشرة أيام ، وثماني ساعات ، وعشرين دقيقة، وخمس ثوان ، عددتها على أصابع يدي ، كما يعـد المساجيـن فتافيت الخبز  وأعقاب السجائر ، وخيطان بطانياتهم  . . .

دَخَلَتْ علىّ رائحةُ الكويت من نافذة منفاي في لندن ، فاخضرَّ لون دمي. .  وتسلّق العُشب على جدران ذاكرتي . .
ما أطول زمنَ المحبوسين في زجاجة الأنظمة الفردية . .
زمنٌ من الخَشبَ . .
لا يتقدمّ . . ولا يتأخّر .   ولا يشيخ . .

بعد مئتين وعشرة أيام . . 
أكلتُ فيها نصفَ أظافري . . ونصفَ دفاتري . .
استيقظت صباحاً لأجد مئات الهدايا مكوّمةً فوق سريري
القمر الكويتي في كيس .  .
أبراج الكويت في كيس . .









دشْدَاَشَتي الصيفية في كيس . .
ألعاب أولادي ، ودفاترهم المدرسية في كيس . .
صورة " مبارك الكبير " في كيس . .
والبحر ، والكورنيش ، والسالمية ، والجابرية ، ومشرف ، ودسمان  والشويخ ، والفحيحيل ، والأحمدي . . ووربة . . وبوبيان . . وفيلكا . .
كلها كانت ملفوفة بأوراق السيلوفان والقصب تنتظر إلى جانب سريري ..
رائحة الكويت تهاجِمُني من كلِّ الجهات . . .
رائحةُ الشاي والقهوة في الديوانيات تخترقني من كل مكان . .
تبللني . . تثقبني . . تحفرني . .
كنت أتصور قبل احتلال بلادي ، أن رائحة الحرية رائحة عاطفية وشعرية  وكمالية . . وأن الطغاة يمكنهم أن يمنعوا استيرادها بمرسوم صادر عن مجلس قيادة الثورة ، أسوة بكل مستحضرات الحرية الأخــرى من أقلام وأوراق ودفاتر . .
ولكنني اكتشفت أن رائحة الحرية هي أقوى الروائح ، وأعنفها ، وأكثرها التصاقاً بأجسادنا وأرواحنا . .







بعد مئتين وعشرة أيام على اختطافها . .
عادت إلينا الكويت وجهاً مغسولاً بالدمع والحزن والكبرياء . .
عادت منهكةً ، محطمة ، ممزقة الثياب ، دامية الشفتين . . لن ندخل في تفاصيل خطفها . . ولن نسجل إفادتها ، ولن نجري معها حواراً صحفياً . . لأنها تعاني من صدمة عصبية قوية ، ولأن حالتها النفسية لا تسمح لها بالكلام مع أحد . .
ثم لن نسألها عن أسم المعتدي ، وعنوانه ، وأوصافه . . فهو معروف جداً . . ومشهور جداً . . ويظهر كل ليلة على قناة الـ C.N.N.

بعد مئتين وعشرة أيام . .
عادت إلينا الكويت ، حافيةً ، جائعةً ، مصابةً بفقر الدم ، بعد أن جّردها الخاطفون من حقيبة يدها ، وخاتم زواجها ، وآخر خمسة دنانير كانت في جيبها . .









بعد مئتين وعشرة أيام . .
هربت الكويت من زوجها الفظّ . . المتسلّط . . والعدواني . . الذي تزوّجها رغم أنفها بقوة السلاح . . وصواريخ سكود . . والكيميائي المزدوج . .
ورغم أنها شكته إلى شرطة الانتربول أكثر من مرة . . إلا أنه لم يتوقف عن ضربها . . وتجويعها . . وطردها مع أولادها من البيت الزوجي . .
العالم كله – بما في ذلك هيئة الأمم المتحدة ، ومجلس الأمن ، ومحكمة العدل الدولية – كان إلى جانب الزوجة الرقيقة ، الوديعة ، المسالمة ضد الزوج الذي لا يعرف من الهوايات سوى هواية جمع المسدسات . .

بعد مئتين وعشرة أيام . .
على عقد " الزواج المسلَّح " ، رَفَضَتْ الكويتُ أَنْ تتخلى عن أصولِها وجذورها ، وشجرة عائلتها ، كما رفضَتْ أن تَدْخُلَ إلى بيت الطاعة في المحافظة التاسعة عشرة . . .
ولأن العريس أصيب بطعنةٍ في كبريائه . . فقد عَمَد إلى تفجير البيت الزوجي بالديناميت ، حتى يغيظ أهل زوجته ، ويثبت فحولته . . وأنه قادر على قصف رقبة أي امرأة تخالفه . .






جميع أسماك  الخليج . . قدمت استقالتها من حزب البعث العراقي . . وانتسبت إلى " حزب الخضر " . .
لأنها لا تريد أن تموت اختناقاً . .
إذا كان النفط ثروة قومية يجب توزيعها على فقراء العرب بالعدل والتساوي . . . كما يقول الرئيس العراقي ، فلماذا أمر بإشعال النار في أكثر من 500 بئر نفط قبل انسحابه . .
هل هي السادّية . . ؟
أم الشيزوفرنيا . . ؟
أم غريزة نيرونية . . لحرق السلالات . . وقتل الحياة والأحياء ؟
بقدر ما كنت مبتهجةً بعودة الكويت إلى أصحابها . . كنت حزينة ومتضايقة لرؤية مئات الأسرى العراقيين على شاشة التليفزيون  يتساقطون إعياءً، وجوعاً، وعطشاً، ويتقاتلون على كسرة خبز، وجرعة ماء . . .
إن مشاعري القومية تنزف دماً، أمام المشاهد الموجعة للقلب والضمير. .
لماذا كسر الرئيس العراقي كبرياء الجندي العراقي ؟ . . وكسر كبرياءنا أيضاً ؟






الجندي العراقي لديه أعظم نهرين في الدنيا : دجلة والفرات ، فلماذا اضطره قائده إلى استجداء زجاجة كوكاكولا من خيام الغرباء ؟ . .
واعجبي ! ! ! .
ولا يزال الرئيس العراقي يستعمل قاموسه الجاهلي في الحرب ، ولا يزال يستعير مفرداته من شعر عمرو بن كلثوم ، وأبي تمام ، عن المنازلة الكبرى ، وقتال الكافريـن والمشركين ، وعن الأعداء الذين " نَضجَتْ جلُودُهم قبل نُضْج التين والعِنَبِ " .
  
في حين لا نرى على شاشة التليفزيون تيناً . . ولا عنباً . . ولا خالداً . . ولا معتصماً . .
وإنما نرى أولادنا العراقيين يرفعون قمصانهم البيضاء ، ويذهبون إلى المعسكر الآخر وهم في ذروة الحماسة إلى الخبز والماء والحرية . .
مرة أخرى أتساءل ، والدمعة في عيني :
لماذا أوصل الرئيس العراقي جنوده إلى هذا الخيار الرهيب . .
وإلى النقطة التي يصبح فيها السقوط في الأسر ، مطلباً نفسياً وجسدياً لا يُقاوم؟ ؟
لماذا . . . ؟ لماذا . . ؟ لماذا ؟ . .






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق