الأربعاء، 16 مايو 2012

شاعرة الحب والحرية

قراءة نقدية




 شـاعــرة للحـب... والحريــة







تعد سعاد الصباح في عالمنا الشعري المعاصر شاعرة الحب والجمال والحرية فهي ملهمة البسمات على شفاه الفقراء والنساء، وهي القابضة على جمر الكلمة، الفالقة لحب الحرف وحد السيف والحاملة للواء رسالة الحرف. لقد حملت على عاتقها مهمة طائر «الفينيق» تحرق نفسها وتحتضن الحريق لكي يولد من جديد عالم تسوده المحبة والحرية والعدالة.
وانطلاقا من إيمانها بالحب الذي يحمل بين جوانحه كل قيم الخير والحق والجمال والعدالة، مارست سعاد الصباح فعل «الاحتراق القرباني» من أجل المرأة العربية والدفاع عن قضاياها وحقوقها. وظلت تؤذن في الناس بالحب والحرية والديمقراطية والمساواة. وبحق كانت سعاد الصباح أغنية الفقراء وسفيرة السلام والشعر وأنشودة الحرية، تحس بوجع الأمة وما آلت إليه حالها.
وسعاد الصباح شاعرة الحب والحرية لأنها إنسانة مرهفة الإحساس وسليلة دوحة شامخة، بنت فخارا لا تسامى شواهقه، وجمعت المجد من أطرافه: أصالة عائلة، وعلما ومعرفة، وشعرا وأدبا مدهشا، وخلقا عظيما وتواضعا جما، وقلبا يمتلىء بمحبة الناس، وهمة عالية، ومسيرة من العطاء امتدت أياديها البيضاء على الثقافة والأدب في العالم العربي.
وسعاد الصباح منشغلة بقضية الحب والحرية من أجل المرأة، فهاجسها تقديم رؤية تنويوية في هذه القضية تتماشى وروح العصر، وتتلاءم مع نزعتها الإنسانية، فهي تقول في نفسها:
غرفتي الشمس
ومن بعض أسمائي الصباح
(فتافيت امرأة ص10 ، 2002 ، ص119)
والحب عندها نضال وكفاح من أجل تأمين الخبز والحب للجميع دون تمييز أو تمترس وراء نزعات ضيقة:
أنا الخليجية
التي تقاتل بأظافرها
من أجل أن يكون الخبز للجميع
والحب للجميع
(فتافيت أمرأة ، ط10 2002 ، ص54).
قد تبنت سعاد الصباح مشروعا نهضويا، وقدمت خطابا شعريا في الحب والحرية قوامه بناء علاقة متكافئة بين الرجل والمرأة، مستندة في ذلك إلى معطيات العصر. ولهذا عرضت رؤاها الفكرية التنويرية في الحب والحرية بجرأة، لأنها شاعرة صاحبة رسالة تناضل من أجلها بسلاحها المحبب، ألا وهو الشعر، فشاطرت «برميثوس» في مهمته، إذ تسرق النار من الرجل ـ السيد ـ لأخواتها النساء، ليمتد إشعاع الحرية إلى كل النساء في الوطن العربي.
إن مفهوم الحب عند سعاد الصباح كما تعرضه في شعرها مفهوم حضاري فهو ليس سلعة استهلاكية أو لافتة شعارية أو لاصقة استعارية للعرض أو الاستعراض، وإنما هو رؤية حضارية متكاملة للإنسان والكون والحياة دون تجاهل للغاية الفنية ولذة النص الشعري. إن محوري الحب والحرية في شعرها يمثلان «حالة فينيقية» تنتهي بالاحتراق من أجل التجدد والانبعاث والإعلان عن مشروع جديد في ميدان النضال من أجل الحب والحرية... وهذه حداثة في الشعر وحداثة في الرؤية لم يسبقها أحد إليها ـ فيما أعلم ـ.
والمنجز الشعري عند سعاد الصباح هو شعر المواقف والقضايا... والحب والحرية من أكثر القضايا المتعلقة بالمرأة العربية في عصرنا الراهن، لذا جاءت معظم قصائدها تحمل لواءين لواء المرأة ولواء العروبة وعندما سئلت الشاعرة عن هذا التركيز، قالت: المرأة العربية مغلوب على أمرها، والعروبة مغلوب على أمرها. وهذا التشابه في الحزن والقهر والاستلاب بين معاناة المرأة ومعاناة العروبة هو الذي جعل سعاد الصباح تضع القضية في ملف واحد في أثناء مرافعاتها الشعرية.
لقد تربعت الشاعرة سعاد الصباح على مملكة من الحب والحرية، وهي مملكة دائمة، فقد تزول كل الممالك، ولكن مملكة أسست للحب والحرية لا تزول. هذا هو شأن شعر سعاد الصباح في الحب والحرية. فهي شاعرة الحب والحرية بامتياز في عالم الشعر العربي الراهن. فمعالجتها لهذين المحورين في شعرها لا تجسد حالة فردية ذاتية، وإنما تنطق بلسان المرأة العربية التي يضعها المجتمع العربي «تحت الحراسة».
وبالرغم من التحولات التي طرأت على بنيته فما زال المجتمع العربي يعتبر الصوت النسائي مؤامرة على «دولة الرجال» وسلطتهم.
فهي تؤمن «بديموقراطية عاطفية» يتساوى فيها الرجل والمرأة في حرية البوح عن الحب، الحب النبيل الذي يحترم إنسانية المرأة وأنوثتها وينظر إليها كامرأة لها كيانها وعقلها، كما تؤمن بالحب الذي يغير كل شيء يتسم بالخوف والسلبية في قواميس الغرام، الحب الذي يرتفع فوق الأنانية والتملك.
ومن هنا نجد أن سعاد الصباح تسلحت بالشعر ووسعت من مفهوم الحب فيه، وامتدت به إلى آفاق رحبه. فالحب عندها لا يقتصر على الجانب الوجداني والعاطفي، وإنما يشمل حب الأرض والوطن والمبادىء والقيم النبيلة مثل التسامح والعدالة والحرية. وهوعندها انتصار لقيم الجمال والخير والحق والسلام، وهو انقلاب في كيمياء الجسد ورفض شجاع لروتين الأشياء وسلطة البيولوجيا «في البدء كانت الأنثى، ص60 ، 2000).
والحب عندها أيضا أرحب من جميع الأزمنة ومن جميع الأمكنة:
حين أكون بحالة عشق
أشعر أن العالم أضحى وطني
(في البدء كانت الأنثى، ص 39) وهو الذي يمنح الحياة لونها وطعمها ويبث الروح والحيوية في الجماد ويمحو القبح ويواجه الشر والظلام، ويتماهى الحب عندها مع الحرية بحيث يتشكل منهما ثنائية متلازمة يتبادل كل طرف منها دور الطرف الآخر، بمعنى أن الحرية هي الحب والحب هو الحرية. هذا هو الحب الذي تؤمن به الشاعرة، الحب الكبير الذي يستوعب التاريخ والجغرافيا، ويمنح الوجود حالة ديناميكية مشبعة بالبهجة والنشوة.
وعندما تحب الشاعرة تنشد الحرية والخلاص من سجن القهر والحصار وتبحث عن الملاذ والمأوى وتسعى إلى الخروج من الإرث التاريخي الذي أغلق نوافذ الهواء والحرية في وجه المرأة العربية:
أنا في حالة حب... ليس لي منها شفاء
وأنا مقهورة في جسدي
كملايين النساء
إنني ضائعة كالسمك الضائع في عرض البحار فمتى تنهي حصاري
(فتافيت امرأة، ص22)
ويتخذ الحب عند سعاد الصباح بعدا حضاريا، إذ يغدو هو والديموقراطية صنوان:
«الديمقراطية أن تقول المرأة
رأيها في الحب...
دون أن يقتلها أحد!!
(في البدء كانت الأنثى، ص51) وبانعدام الحب تتقلص مساحة الحرية وتهيمن العبودية، وبالحب يطرد الظلم والاضطهاد:
... سنتحداهم بكل طاقاتنا عن الحب
لأن الحب وحده...
هو الذي سيطرد جحافل البرابرة
ويوقف هجمة عصور الانحطاط
(في البدء كانت الأنثى، ص140)
والحب عند سعاد الصباح يعني التضحية من أجل الغير والقبض على جمر الكلمة. ففي سعيها لبناء حب شامل حررت الكلمة وصدقت في تحرير المشاعر، وقدمت للمبدعين في الفكر والعمل ما لم يقدمه أحد من قبل، كما أنها جعلت من شهادات العلم والتفوق مداخل لتكريس قيم الحق والخير والعطاء التي هي أعمدة معمار الحب. فهذه القيم تتغذى من نهر الحب، الحب الذي يسمو على الأنانية والنرجسية والتقوقع حول الذات، لتصل النفس بالحب إلى حالة من التجلي تعبر فيها بسمو ونبل عن الرغبات الأنثوية الكامنة في أغوار النفس. وبهذا تستطيع المرأة أن تمارس حقها المشروع الذي لا يختلف كما تقول سعاد ـ
عن حق الرعود في التفجر، وحق العصافير في الغناء والزقزقة.
ويغدو الحب في هذه الحالة «على مستوى الكون».
فعندما تحب المرأة تدخل في علاقة حب مع العالم كله
(في البدء كانت الأنثى، ص 111).
وانطلاقا من دائرة الحب الواسعة التي طوقت بها نفسها يقترن الحب بالحرية، وتصرخ سعاد الصباح في وجه الظلم والقهر من أجل الحرية:
كلما أبصرت هذا الوطن الممتد
بين القهر والقهر... بكيت
كلما حدقت في خارطة الأمس
وفي خارطة اليوم
بكيت...
(فتافيت امرأة، ص128)
وفي إطار هذه الرؤية الشاملة للحب يصبح الحبيب عندها هو الوطن تنتمي إليه وتدين له بالحب والولاء:
كويت، كويت
أحبك.. كالشمس تعطين ضوءك للعالمين
أحبك كالأرض
تعطين قمحك للجائعين
... وزرع العروبة فيك قديم... قديم
كهذا النخيل...
(فتافيت امرأة، ص 147 ـ 148)
والحب عندها في الوقت ذاته انتماء للعرب وانشغال في آلامهم وآمالهم:
هل من الممكن إلغاء انتمائي للعرب؟
إن جسمي نخلة تشرب من بحر العرب
وعلى صفحة نفسي ارتسمت
كل أخطاء، وأحزان
وآمال العرب.
(فتافيت امرأة، ص130)
ومن خلال ما تقدم نجد أن الشاعرة سعاد الصباح من أبرز الأصوات الشعرية في عصرنا الحاضر وأكثرها تألقا وتأنقا فنيا في قضية الحب والحرية، فهي صوت شعري متميز ـ يختلف عما عهدناه في الشعر النسائي.
كما تشكل ظاهرة شعرية غنية بالمضامين والدلالات في قضايا الحب والحرية، وجريئة في خطابها النسوي الذي واجهت به الكثير من العادات والتقاليد التي لا تتماشى مع منجزات العصر ومعطياته ورؤاه الجديدة، وقوضت الكثير من البنى الاجتماعية الهشة، وباحت بما لم يستطع البوح به الكثير من الشعراء والشواعر. فهي الهاربة من قصص حب ألف ليلة وليلة، ومن وصايا القبيلة في الحب والحرية، وهي الداعية إلى إيجاد «ديموقراطية عاطفية» في صورتها الإنسانية والإيجابية، يتساوى فيها الرجل والمرأة في حرية البوح النبيل. ومن أجل إبراز هذه الرؤية الجديدة للحب والحرية وظفت الشاعرة سعاد الصباح لغة مدهشة انفتحت على نوافذ الحرية والتجدد، وتبنت مفهوما شاملا للحب يحمل بين جوانحه كل قيم الخير والحق والجمال

نشر في مجلة الكويت
العدد : 341
2012-03-28

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق